ومن كذبات هذا الجاهل إنكاره قولي أن الروح التي سأل عنها اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مقدمه المدينة ، ليست هي الروح التي تحل في جسد الإنسان , وزعم الكاذب أن تلك الروح هي من الأمـور الغيبية , وهذا صحيح إلا أن الضال مبنى زعمه هذا على أن الروح هي الروح التي تحل بجسد الإنسان , والصحيح أنها ليست كذلك بل هي روح الوحي التي قال عنها تعالى : ﴿ وكذلك أوحينا  إليك روحا من أمرنا ﴾ ( 1 ) وقال فيها : ﴿ يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ﴾ ( 2 )

وغيره مما هو في هذا المعنى .

قال المفتون الكذاب :  مسألة الروح هنا هي من الأمور الغيبية حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب اليهود بقوله تعالى : ﴿ ويسألونك عن الروح . قل الروح  من أمر ربي ﴾ فالمصطفى لم يعرف معناها والوحي كان ينزل عليه فكيف عرفته أيها اللحيدي  اهـ (3) .

وكون هذا من غيب الله تعالى لا يعني أنها روح الجسد كما فهم هذا وغيره , ولذا تراه يقطع بأن المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يعرف معناها , وكذب عدو الله ونفسه ، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بعد تعليم الله تعالى له , وأخبر أنهـا المبشرات ونص على خبر ذلك في أكثر من حديث كما بينته في كتابي : ( وجوب الاعتزال ) الذي أنكر ما تقرر فيه هذا الضال الزائغ . وكونه غُيِّب على اليهود علم ذلك لا يلزم منه عدم علم الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقتها , وإنما هذا فهم هذا الضال ، الذي مبناه على أن السؤال إنما كان عن الروح التي تحل في الجسد .

       ومما يدل على صحة ما ذهبت إليه ، ما ثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر المراد بالروح المذكورة في تلك الآية  ( 4 ) , ولو كان المراد بها ما فهمه هذا الدعي ، لما كتم ابن عباس المعنى المراد منها ولبين أن المقصود بها روح الجسد , بل مـا أيسر الجواب كان على رسـول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : وهل يمكنكم معرفة ما لا يرى . ثم إن روح الجسد وحقيقتها لا تعلق لعلم البشر ـ اليهود أو غيرهم  ـ بإدراك ماهيتها سواءً قل علمهم أو كثر , ولذا كان جواب الله تعالى على سؤالهم عن الروح بقوله : ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ (5)  أي قصر بكم العلم الذي عندكم لتعرفوا حقيقتها وكان سبب السؤال ما يجدونه من ذكر عنها في كتب الأنبياء ، ولذا همهم الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم على سؤالين هما :

الأول : ما أول أشراط الساعة ؟ .

الثاني : ما هي الروح ؟ .

فعندما قدم رسول الله المدينة أتاه حبر من اليهود فقال له كما ورد في صحيح البخاري عن أنس :  إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة و.. و .. ، فقال رسول الله : ( أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد ذلك : ( أخبرني بهن جبريل آنفا ( 6 ) .

وكان السائل عبد الله بن سلام . ورواه الطبراني باختصار عن ثوبان وفيه : جئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجـل أو رجلان . فلما أجابه قال : صدقت وإنك لنبي ثم انصرف  ( 7 ) .

وفي هذا دليل على اهتمام اليهود وتحفظهم على هذا الخبر ، وحرصهم الشديد على عـدم إفشاء هذا السر ! الذي لا يعلمه إلا قلة منهم أو نبي يوحى له من السماء ، وكم كان هذا مبرهناً على صدق نبوة رسول الله إلا أن اليهود قوم بهت .

ومما يهمنا ذكره هنا هو الكلام على سؤالهم عن الروح الذي همهم معرفة الجواب عليه وواجهوا رسـول الله عند قدومه المدينة به ، قال ابن مسعود : بينا أنا مع رسول الله في حرث إذ مر اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الـروح ، فقال بعضهم : لا يستقبلكم بشيء تكرهونه ، فسألوه عن الروح ، فأمسك ولم يرد عليهم شيئاً ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي . فلما نزل الوحي قال : ﴿ ويسألونك عن الروح . قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾ (8 ) .

وقد اختلف الناس في المراد من الروح هنا . وباعتبار قصد السائل يعرف المراد ، وقد ثبت عند اليهود اقتران ذكر المخلص بالروح في أخبار أنبيائهم ، وفيها أنه يبعث بها وينصر بها . ومما نقل عنهم سابقا يدل على هذا ، ومن غير المستبعد أن يكون هذا مرادهم ، بل ترجح عندي أنه المراد إن شاء الله تعالى . وهدفهم بالسؤال معرفة حقيقة هذه الروح ، فهي مما أشكل عليهم معرفته ، ومدار هذا الأمر يعود عندهم إلى عدة مواضع من كتبهم ، منها قول إشعيا عليه السلام : ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله . ويحل عليه روح الرب ( 9 ) . وقال : هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي . وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم ( 10 ) .

وقال أيضا : روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسببين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق . لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين ( 11 ) .

وقوله : لأنادي بيوم انتقام لإلهنا . صريح في أن المراد آخر الزمان ، لثبوت أن المراد بالانتقام ما يكون آخر الأمر ، كما ويشهد لهذا المعنى المذكور في كتب الأنبياء ، ما ورد في كتاب الله العزيز في قوله سبحانه : ﴿ يوم نبطش البطشة الكبرى إنَّا منتقمون ﴾ ( 12 ) . واليهود يعلمون علم اليقين أن هذا كائن آخر الزمان ولا يدرون ما هو السبيل الذي يتحقق فيه أثر الروح المذكورة ، يريدون معرفة ذلك على التفصيل ! .

وكاد النبي دانيال أن يفصح عن المراد حين قال : كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه . فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً . وقال وكنت أنظر وإذا هذا القرن يحارب القديسين فغلبهم حتى جاء القديم الأيام وأعطي الدين لقديسي العلي وبلغ الوقت . وقال : إلى هنا نهاية الأمر ! ( 13 ) .

وبهذا يفهم أن زمان قديم الأيام آخر عمر الدنيا ، ومما ثبت في اعتقاد أهل الحق من المسلمين أن الدنيا تحكم في آخر الزمان كلها بالإسلام في زمان المهدي المنتظر ، كما نص على هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا يعرف أن المراد بقديم الأيام هذا المنتظر ، ويبقى السؤال الذي حير اليهود والنصارى على السواء ، هو من هذا مثَلُ ابن الإنسان !! . أما النصارى فقد أجمعوا أمرهم على أنه عيسى ، وهذا من سفه عقولهم كما هي عادتهم عندما يتكلمون عن النبوءات ، وذلك لأنه على حسب هذا الاعتقاد يبقى تعيين قديم الأيام مشكل بالنبوءة ولن يجدوا ولم يجدوا جواباً عليه . وأما اليهود فالصمت خير والترقب كما قال تعالى عنهم : ﴿ يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ﴾ ( 14 ) . وتجدر الملاحظة إلى أنه ورد في كلام دانيال ذِكرُ صِفَةِ رجلين وكذلك مثله في كلام إشعيا أيضاً ورد وصف رجلين وهما ( يسى ) والغصن الذي هو من أصوله والقضيب من جذعه . ومن المعلوم عند أهل المعرفة أن المراد بيسى أو مسيا هو النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد صاح بهذا في اليهود عيسى عليه السلام لما سألوه عن حقيقة المسيا وممن يكون . وبحمل كلام دانيال على قول إشعيا النبي يتبين أن المراد بقوله : مثل ابن إنسان ، أنه المصطفى عليه السلام ، الذي هو يسى على قول إشعيا ، وقديم الأيام على قول دانيال يكون المراد به القضيب والغصن على وفق كلام إشعيا . وعلى هذا عندما يعرف المراد من يسى أو مسيا ، أنه رسول الله المصطفى ، لم يبقَ المراد بالقضيب أو الغصن أو قديم الأيام إلا حفيده المهدي المنتظر . وعلى حسب ما ورد في دانيال ، فإن الأرض أخبر رسول الله أن المهدي يحكمها ، وأما على قول إشعيا فالأمر ظاهر فقد صرح بأن القضيب من يسى وأنه غصن منه ، والمهدي كما جاء عن رسول الله يكون من ذريته.

ومهما دار الكلام في تقرير معنى هذه الأخبار وحقيقة ما دلت عليه ، يبقى المفتاح في فهم وإدراك حقيقة هذه النبوءات ، في آية الزبور والتي أكدها إنجيل عيسى الصحيح في خبر الرب والقضيب كما قال لليهود : ( متى جاء رسول الله فمن نسل من يكون ؟   فأجابوا : من داود ، فقال لا تغشوا أنفسكم لأن داود يدعوه في الروح ! رباً ، قائلاً هكذا : قال الله لربي إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك . فإذا كان رسول الله الذي تسمونه مسيا ، ابن داود فكيف يسميه داود ربا صدقوني لأني أقول لكم الحق أن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق ! ) ( 15 ) . 

وهنا جمعت نبوءة الزبور التي احتج بها عيسى على اليهود ، بين ذكر رسول الله والمهدي ، فالرب الرسول المصطفى والقضيب المهدي المنتظر !! وعندما علم اليهود أن هذا اعتقاد عيسى عليه السلام ، مكروا به وطلبوا قتله على يد الرومان ، فسلمه الله من شرهم ورفعه إليه ليكون شاهداً عليهم آخر الزمان عندما يجتمع الأشهاد !! . وهذا الوارد في الزبور الغاية في تعظيم أمر المهدي وبيان مكانته عند الله تعالى حتى ينص على ذكره بالزبور والإنجيل وكذلك القرآن ، وفي هذا أعظم مفاجأة تقع على مسامع أهل الإسلام في وقته .

ويبقى هنا ما لابد من تقرير الكلام فيه ، وهو كيف يمكن تقديم المهدي على حسب نبوءة دانيال بين يدي ابن الإنسان إذا قلنا بأن المراد به رسول الله ، كيف يعقل أن يكون هذا ، وإنما بعث المهدي يقع آخر الزمان ؟ .

والجواب هو : أن تصديق كلام النبي دانيال عليه السلام لا يعقل تحققه إلا بالرؤيا ، وهذا مما يجوز وقوعه شرعاً ولا ينكره إلا من هو أبلد من حمار ، بل هو كاذب على الله تعالى قائل على حكمه بغير علم ، ولعل بعضهم أن ينكر جواز وقوع هذا خشية الفتنة بزعمه ، وهذا لا يفيد بالمنع شرعاً بل هو بحد ذاته فتنة ، لأنه قول على الله تعالى بغير علم وقد نُهيَ عن هذا ، وفي قول دانيال : مثل ابن إنسان . إشارة لما تقرر هنا ، فقوله : مثل ، وشبه ، يريد بذلك ما يرى في المنام لا في حـال اليقظة . وأما قول إشعيا يكاد أن يكون صريحاً في هذا المعنى ، على اعتبار صحة القول في أن مراد النبي إشعيا بقوله : ( ويحل عليه روح الرب ) . وقوله : ( روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب ) . هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن الرب في كلام إشعيا المراد به الرب في نبوءة الزبور التي استشهد بها عيسى عليه السلام كما في الزبور على أن المراد بها رسول الله ، فإن كان الأمر كذلك ففي هذا مطابقة وموافقة لما ذكر دانيال من اجتماع ابن الإنسان وقديم الأيام ، وإعطاء قديم الأيام السلطة والمملكة ، وهذا مما لا يمكن تحققه إلا بالرؤيا وهي سبيل من سبل الهداية والرشاد وجزء من الوحي الإلهي ولعل إخبار النبي عليه الصلاة والسلام عن كون الرؤيا في آخر الزمان لا تكذب ، مع إخباره أن الشيطان لا يمكنه التمثل بصورته إشارة لما تقرر هنا ، والله فعال لما يريد . وهذا الأمر لعله ما كان يهم اليهود علمه ويُنَقِّرونَ عن خبره ، حتى بلغ بهم الأمر أن قال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين هل ترى في منامك شيئاً ؟ فانتهره عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين  إنا نجد رجلاً يرى أمر الأمة في منامه !! ( 16 ) .

وسبق أن نقلت عن النبي يوئيل ما يفيد أن من معاني الروح عندهم الرؤيا المنامية لقوله : ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى ( 17 ) .

ومن شواهد هذا المعنى المقرر في كلام الأنبياء وفيه الإشارة إلى أن هداية المهدي وتعيينه على وفق ما ذكر منسوبا إلى كتب أنبيائهم ، سيكون بالرؤيا المنامية ، أقول من شواهده بالكتاب والسنة الآتي :

أولا : أنه على اختيار بعض السلف من الصحابة ومن تبعهم بإحسان من علماء الأمة ، أن قوله تعالى : ﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم . ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون . أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ﴾ ( 18 ) .

أن زمان تحقق تأويل هذا هو آخر الزمان ، وعلى هذا الاختيار وهو الحق إن شاء الله تعالى على حسب ظاهر الآيات المدلول عليها بصريح السنة التي فيها أن الدخان إنما يكون آخر الزمان من أشراط الساعة ، ولا يصح وفق هذا الاختيار  أن يوصف بالقرآن أنه رسول وأمره مما يكون آخر الزمان إلا المهدي المنتظر ، وإذا صح وصفه بالإرسال وهو ظاهر القرآن ، صح تلقيه للوحي ، وهو الرؤيا لخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أنها الجزء الوحيد المتبقي من النبوة بعده ، وكون الرؤيا جزء من الوحي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قـال تعالى : ﴿ ومـا أرسلنا مـن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ﴾ ( 19 ) , وقال  : ﴿ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولاتجد لسنتنا تحويلا ﴾ ( 20 ) .

فسنة الرسل أن يوحى إليهم ، ولا تبديل لهذه السنة ، والمهدي على وفق اختيار القول في آيات سورة الدخان على ما ذكرت هو رسول لله ، فيصح على هذا بنص القرآن أن يوحى له ، وعلى هذا عاد قيام البرهان من القرآن على دعوى جواز تلقي المهدي للوحي إلى آيات سورة الدخان ، ودار مع القول بتأويل تلك الآيات ثبوتاً ونفياً . فإن سُلم القول بأن تأويل آيات سورة الدخان آخر الزمان ، ويكون هذا هو الحق ، سُلم قيام البرهان من الكتاب على أن المهدي سيتلقى الوحي من الله تعالى ، وإن لم يسلم هذا القول في تأويل تلك الآيات وكان هذا عند الله تعالى ليس بحق ، بطلت تلك الدعوى بثبوت البرهان من القرآن على أن المهدي سيتلقى الوحي من الله سبحانه ، ويبقى النظر في ثبوت هذا من وجه آخر . والقائلون بتحقق تأويل آيات سورة الدخان آخر الزمان أظهر بالحجة وأنطق بالكتاب والسنة ، وأكثر مواءمة لظاهر الكتاب والسنة .

ومن الذين انتصروا لهذا الاختيار من العلماء أبو الخطاب ابن دحية وصلاح الدين العلائي وابن كثير رحمهم الله تعالى ، وليس للمخالف لهذا القول ما لهؤلاء من حجة إلا أن اعتقادهم هذا هو السائد في الأمة على سبيل التقليد لا النظر والتحقيق ، خصوصاً في هذا الوقت الذي وقع فيه تأويل تلك الآيات ، ولذا من المتوقع أن ينفر المعاصرون من هذا الاعتقاد نفوراً شديداً ، إلا أن الحق أحق أن يتبع ويقال ، وعلى كل الإدلاء بالحجة ، قال تعالى :  ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ ( 21 ) .  

وفي هذا التقرير ما يشهد لما عند أهل الكتاب ما فيه تلقي المهدي عن الروح ، وهو الوحي بالرؤيا .

ثانيا : قال تعالى : ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين ءامنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ﴾ ( 22 ) وروى البخاري في الصحيح عن أبي هريرة قال :  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول : ( لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة )  ( 23 ) . وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة ورأسه معصوبة في مرضه الذي مات فيه والناس صفوف خلف أبي بكر فقال : ( يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ( 24 )  .

وعند النسائي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة( 25 ) .

ويفهم من تكلفه عليه السلام عناء تبليغ الصحابة هذا الأمر وهو في مرضه الذي مات فيه ، أهمية هذا الأمر وعظيم شأنه ، والآية في سورة يونس مصرحة ومؤكدة لهذا الشأن في تأكيد أمر البشرى بأنها الفوز العظيم ، وأنها من كلمات الله تعالى التي لا تبديل لها ، وفي هذا أظهر برهان على عظم شأن البشرى التي هي الرؤيا الصالحة .  ومما لا شك فيه أن هذا التعظيم لشأن البشرى سواء ما ورد في آيات سورة يونس أو فيما ثبت عن رسول الله ، لا يدل على ما فهمه غالب الناس أنه في عموم الرؤيا لا بل هو في تعظيم شأن البشرى المخصوصة بالمهدي سواء في تعيينه أو في تبشيره بالنصر والتمكين أو إخباره بمنزلته العظيمة في الدين ومجاورته لجده في جنة الفردوس . وقد صرفت البشرى في القرآن على عدة أوجه ، منها الرؤيا كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الآيات في سورة يونس ( 26 ) . ومما يؤسف له حقاً خفاء المعنى في ذلك التفسير على الكثير ، ولم يتفطنوا لحكمة قصر البشرى على الأولياء الأتقياء دون سائر عباد الله تعالى ممن هم دون منزلة هؤلاء الأولياء مع أن الرؤيا قد تقع للمسلم العاصي الفاسق ، وللمنافق المارق ، وكذلك قد تقع للكافر كما هو ثابت في سورة يوسف عليه السلام وغيرها ، مثل ما تقع لعباد الله الصالحين . والذي أعتقده أنا بنفسي أن رسول الله إنما فسر البشرى بالآية ، بالرؤيا على سبيل التنبيه والتفسير الخفي لمعنى البشرى في الآية ، ولم يرد ما فهمه أكثرهم ، أن المراد مجرد الرؤيا العامة التي يشترك فيها كما قلت المؤمن والمسلم والمنافق والكافر ، ثم إن رسول الله لم يرد كذلك في ذلك التفسير حصر البشرى بالرؤيا ، كلا بل هي جزء من البشرى ومفتاحها ، لا كل حقيقتها ، ألا ترى كيف كان يبشر الأمة بمبعث المهدي ليوافق لفظ الآية ، وما الرؤيا إلا المفتاح والمدخل لأمـره ، قال تعالى : ﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ﴾ ( 27 ) . , وقال : ﴿ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ﴾ ( 28 ) . عن القرآن : ﴿ مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ﴾ ( 29 )

فبماذا بشر القرآن والرسـول عليه السلام .

فأما الرسول ، فليس من قبيل الاتفاق من غير قصد يوافق لفظ الآية حين يقول : ( أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل ) رواه أحمد . فهذه بشرى رسول الله للأمة . فكما بشر عيسى به ، هو بشر بالمهدي جرياً على سنة الأنبياء قبله وتأويلاً لقوله تعالى : ﴿ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ﴾ . وقوله تعالى : ﴿ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ﴾ ( 30 ) .

وهنا أقول أيضاً : أنه ليس من قبيل الاتفاق ومـن غير قصد تفتتح سـورة يونس بتبشير المؤمنين بقدم الصـدق ، ثم يثني بذكر بشرى المؤمنين من بني إسرائيل على لسان موسى وهارون في قوله : ﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ﴾  ( 31 ) .

إلى أن قال : ﴿ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات ﴾ ( 32 ) . وعاتب موسى قومه بعد رجوعه من الجبل بقوله : ﴿ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً . قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً . أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ﴾ ( 33 ) . والوعد الحسن هنا المراد به البشرى التي أمر موسى بتبليغها لبني إسرائيل ، ووصفها عز وجل بأنها مبوأ صدق ، كما وصف بشرى رسول الله لأمته بقدم الصدق ، والمعنى واحد ، والمراد التمكين والنصر على الأعداء كما قال سبحانه : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ﴾ ( 34 ) وما  ورد في سورة يونس من ذكر البشرى يعد تفصيلاً لهذه الآية وتفسيراً لحقيقة الاستخلاف . وجمع سورة يونس لبشرى رسول الله لأمته بالتمكين وبشرى موسى وهارون لبني إسرائيل بالتمكين ، مع بشرى أولياء الله تعالى مقصورة عليهم  مع التأكيد على أنها كلمة الله تعالى التي لا تبديل لها ، وأنها الفوز العظيم ، يدل على أن المعنى المراد أكبر مما تتخيله عقول الناس ، وقصرها على هؤلاء الأولياء لبيان عظيم حظهم ومنزلتهم عند الله سبحانه ، حتى استحقوا هذه البشرى من دون سائر الناس ، ولا يجوز حمل المعنى في الآية على عموم الأولياء ، لأنه لا وجـه لاختصاص جميع الأولياء بالرؤيا كما ذكرت ، ولا وجه كذلك لاستحقاق جميع الأولياء لبشرى الله بالتمكين والنصر والظفر على الأعداء ، بل خرج الأمر والنبأ على وجه الخصوص لأولياء لله تعالى معينين تتحقق لهم البشرى في آخر الزمان ، وعداً لا تبديل له ، وفوزاً عظيماً تكفل الله به ،  وتجدون هذا الوعد مكتوباً في قوله سبحانه : ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ ( 35 ) وقوله : ﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون ﴾ ( 36 ) وقوله  : ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز ﴾ ( 37 ) وهذه هـي الكلمات التي وعـد الله سبحانه أنهـا لا تبدل فقال : ﴿ لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ﴾ ( 38 ) وفي عداد هذه الكلمات أيضاً قوله : ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثـوا الكتاب مـن بعدهـم لفي شك منه مريب ﴾ ( 39 ) ومما  ورد في الزبور وفيه الإشارة لهذه البشرى قوله : ( مطر غزيراً نضحت . ميراثك وهو معيَّ أنت أصلحته قطيعك سكن فيه . هيأت بجودك للمساكين يا الله . الرب يعطي كلمة . المبشرات بها جند كثير . ملوك جيوش يهربون يهربون( 40 ) . هكذا ورد اللفظ في النسخة البروتستانتية ، وفي الكاثوليكية : السيد يعطي الكلمة وأهل البشرى جيش كثير ( 41 ) وهنا تم الجمع بين الكلمة والبشرى كما الآية في القرآن .

وورد في السنة أيضاً ما يفيد أن البشرى لهؤلاء الأولياء المشار إليهم بالآية ، وهم عباد لله نالوا تلك المنزلة الرفعية على سبيل التعيين فضلاً من الله تعالى ورحمة وهبة لا يشاركهم بها سائر أولياء الله تعالى ، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال :  إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته أقبل على الناس بوجهة فقال : ( أيها الناس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله ) . فجاء رجل من الأعراب من قاصية  الناس فقال : يا رسول الله انعتهم لنا ، فسر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسؤال الأعرابي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها فيجعل وجوههم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون ، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون. رواه أحمد في المسند وابن المبارك في كتاب الزهد (42) .

ورواه عبد الرزاق الصنعاني شيخ أحمد وفيه زيادة سيأتي التنبيه على فائدتها بحول الله .

وهل بعد هذا تعيين إذ استثناهم من دون الأنبياء والشهداء بالغبطة ، وقوله في الحديث : ( هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون ) . صريح في أن المراد بهم المذكورين في سورة يونس الذين هم أصحاب البشرى وأهلها ، ومن أجهل ممن يعتقد أن كل من رأى رؤيا يدخل في عدادهم ، أو أن كل من كان صالحاً يكون منهم ، كلا فأن هؤلاء ما غبطوا من الأنبياء والشهداء على مكانهم من الله إلا لأمر عظيم خصهم الله تعالى به ، فنالوا بذلك تلك المنزلة ، ووصف رسول الله لهم بأنهم من أفناء الناس ونوازع القبائل فيه إشـارة إلى أنهم هم الغرباء الذين تواترت الأحاديث في ذكرهم ، ومنها حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله : ( إن الإسـلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) . قيل : ومن الغرباء ؟ قال : ( النزاع من القبائل ) ( 43 ) . وفي لفظ : نوازع الناس . وهذا اللفظ في تفسير الغرباء أصح ما ورد في تفسير الغرباء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي صفة من صفات الأولياء الذين نص على خبرهم حديث أبي مالك الأشعري ، وسيأتي لاحقاً بحول الله تعالى ذكر أبرز صفاتهم الدالة على عظيم قدرهم وجلالة منزلتهم عند الله تعالى ورسوله ، حتى أن رسول الله يصفهم بأنهم إخوانه ويذكر لأصحابه  مدى اشتياقه لهم ، وقد جاء في الأخبار متى زمان هؤلاء الغرباء وبيان كيف تتم عودتهم إلى مدينة رسول الله ، ما به يثبت أن المراد المهدي ومعاصريه من عباد الله تعالى الأولياء ، الذين سيجمعهم عليه أمر الله وحده ، لا أحزاب الشعوب ولا قبائل الناس المتعددة ولا حكومات الدول ، بل ينزعهم أمر الله تعالى العظيم ويجمعهم من كل حدب وصوب ، في عصبة جديدة وشوكة لا عهد للناس بمثل اجتماعها ، إلا ما كان من اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلموصحبه الكرام ، وقد ورد عند عبد الرزاق في المصنف في حديث أبي مالك الأشعري المذكور سابقاً ما يشير إلى سبب اجتماعهم ، فقال : ( هم عباد من عباد الله من بلدان شتى وقبائل شتى ، من شعوب القبائل ، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، ولا دنيا يتباذلون بها يتحابون بروح !! الله( 44 ) . وقوله في الحديث : ( يتحابون بروح الله ) يعيدنا إلى سؤال اليهود وما نقلته من كتبهم في معنى الروح ، ومما لا شك فيه أن وحي الله تعالى قديماً وحديثاً دائر بعضه على بعض وبعضه شاهد لبعض ، وهذا أيضاً مما يعد من الموافقات بين كلام الأنبياء عليهم السلام .

وأشار الزبور إلى هذه الروح بقوله : ( علمني الطريق الذي أسلك فيه فإني إليك رفعت نفسي . أنقذني من أعدائي يا رب فإني بك استعذت . علمني أن أعمل مرضاتك لأنك أنت إلهي . إن روحك صالح فهو يهديني في أرض الاستقامـة ) ( 45 ) . وقال : ( ومن وراء ومن قدام أحطت بي وجعلت على يدك . علم عجيب فوق طاقتي أرفع من أن أدركه . أين أذهب من روحك ! وأين أفر من وجهك ) ( 46 ) . وفيه قوله : ( لقد كلمت صفيك في رؤيا ! فقلت أني هيأت نصرة للجبار ورفعت المختـار من الشعب )  ( 47 ) . وقال : ( انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض عند استئصال المنافقين تنظر ) ( 48 ) . وقال : ( الصديق يكون ذكره إلى الأبد لا يخشى خبر السوء . ثابت قلبه متكل على الرب . قلبه مسند فلا يخشى إلى أن يرى خيبة مضايقيه . بدد وأعطى المساكين فبره يدوم إلى الأبد وقرنه يرتفع بالمجد . والمنافق يبصر فيغضب ويذوب بغيته تهلك ) ( 49 ) . وغير هذا الكثير مما ورد ذكره في زبور داود عن الروح وخبر الصديق ، وكل هذا مصداقاً لما ورد في قوله تعالى : ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكـر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ ( 50 ) .

هذه هي الروح !! التي شغف يهود بطلب معرفتها وكشف سرها ، وما هي إلا الكلمة التي ورد ذكرها عندهم في الزبور : ( لقد كلمت صفيك في رؤيا .. ) إلخ . وفي موضـع آخر قال : ( الرب عارف أيام الكلمة وميراثهم إلى الأبد يكون )  ( 51 ) . وقال حزقيال : ( وأجعل في داخلهم روحاً جديداً ) ( 52 ) .

والحديث الوارد عند عبد الرزاق لا يضره تقصير من قصر في سنده ، فقد رواه من طريق عبد الحميد بن بهرام موصولاً ابن المبارك وأحمد في المسند . وقال القطان : من أراد حديث شهر فعليه بعبد الحميد بن برهام . وقال أحمد : حديثه عن شهر مقارب كان يحفظها كأنه يقرأ سـورة من القرآن ، وهو سبعون حديثاً طوال ( 53 ) .

قلت : فإن كانت هذه حاله مـع حديث شهر وهي من الأحاديث الطوال ، فمن أذن أسقط من حديثه قوله : يتحابون بروح ! الله ، وفي إسقاطها إخلالاً بالمعنى كبير ؟! كذلك الرواية عند ابن المبارك وأحمد مثبته من دون ذكر الروح ! ، أحدهم أسقط ذكرها ، وهى عادة سيئة تُأخذ على بعض رواة الحديث كما بينت ذلك في أكثر من موضع . وقد ورد ما يشهد لها من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسـول الله : ( إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى ) . قالوا : يا رسـول الله ، تخبرنا من هم ؟ قال : ( هم قوم تحابوا بروح ! الله على غير أرحام بينهم ولا أمـوال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهـم على نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ـ وقرأ هذه الآية : ﴿ ألا إن أوليـاء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون ) رواه أبو داود في سننه ، ورواه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه إلا أن فيه قولـه : ( تصادقوا في الله وتحـابوا فيه( 54 ) .

وهذا جراء الرواية بالمعنى والأصل : ( بروح الله ) . كما ورد في لفظ حديث عبد الرزاق وأبي داود ، فهو الحرف الذي لا يمكن أن يقال بالرأي والمعنى ، لأن من معاني الروح الوحي ! . قال أبو سليمان الخطابي في شرح الحديث : الراء من الروح مضمومة يريد القرآن ، ومنه قوله تعالى : ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ﴾ ( 55 ) وهذا غير صحيح فالقرآن لا يختص به أحد دون الجميع حتى ينال تلك المنزلة العظيمة التي يغبط عليها ، ثم إنه لا اِختصاص لنزاع القبائل دون سائر المؤمنين بالقرآن حتى يذكروا بما ورد في الحديث ، ثم إن المتحابين من أهل الإيمان جميعهم في الله لا اَختصاص لهم في آيات سورة يونس حتى ينص رسول الله في الحديث على أن الآيات فيهم وأنهم أهل البشرى .

 وأزيد هنا على التأكيد بأن هؤلاء متميزون عن سائر الأولياء بما أوجب لهم تلك المنزلة التي اختصوا بها دون سائر الأنبياء والشهداء ، لا بل زاد معاذ بن جبل رضي الله عنه في حديثه قوله : ( يغبطهم بقربهم من الله النبيون والشهداء والصالحون ) ( 56 )

ولا يعقل أن يميز هؤلاء عن سائر عباد الله من النبيين والصالحين والشهداء جميعاً بالحـب في الله ، وجميع هؤلاء كانوا يتحابون في الله ويتزاورون فيه . والصالحون من هذه الأمة جميعهم متحابون في الله مؤمنون بكتابه ، فمن يغبط من ! ، ومع هذا ليسوا جميعاً نزاع القبائل !.

والحاصل أن هؤلاء قوم اجتباهم الله تعالى بفضله ونعمته ، وتميزوا عن سائر الخلق بهذا الاجتباء والفضل والنعمة ، وثناء رسول الله عليهم مما علمه من هبة الله تعالى لهم ، وواهم من اعتقد أن قول الرسول فيهم ليس على التعيين ، مثل ما وهم أهل الحديث حين ظنوا بأنفسهم أنهم الغرباء ، ومثل ما وهم أهل الشام حين اعتقدوا أنهم هم الطائفة المنصورة ، كما قاسمهم أهل الحديث هذا الإدعاء أيضاً ، والمتشبع بما لم يعطَ يبقى أبداً كلابس ثوبي زور .

والحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء العبـاد الأولياء أصحاب البشرى ، هم الغرباء والطائفة المنصورة الناجية التي لا تزال تقاتل أعداء الله تعالى من ابتداء تمكينهم بإذن الله إلى أن يقاتل آخرهم الدجال .

والعجب في أهل الشام أنهم ادعوا هذا أو رَجَوا ذلك ، والواقع يكذب دعواهم أو رجائهم ذاك ، فأولهم قاتل علي وآخرهم أفناهم بنو العباس وقتلوهم شر قتله ، وأما أهل الحديث فما عرفوا بمجموعهم بقتال ولا ظهور على الأعداء أبدا ، بل انتهى الأمر بالمتأخرين الذين يدعون أنهم من أهل الحديث وليسوا كذلك :

أولا : لأنهم لا إسناد لهم فضلاً عن أن يعرفوا بطلب الحديث .

ثانيا : هم اليوم من أضل خلق الله تعالى ، وأبداً تجدهم أذناباً للسلاطين ورؤوساً في الفتن والعياذ بالله ، والأقطع منهم أشر ، وقد انتهى الأمر بهؤلاء إلى الذلة والهوان على فسقة الملة ومنافقي الأمة ، فأين الظهور ؟ وأين المكنة ؟ ، فكيف يكون أمثال هؤلاء من الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ! .

أما أولئك العباد الأولياء المتحابين بروح الله فقد نص القرآن على صفاتهم فقال تعالى فيهم : ﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حَاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾ ( 57 )  وقال عنهم في صدر سورة البقرة : ﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ﴾ ( 58 ) والقول بأن هذه الآيات فيهم ليس هو من القول بغير علم ، بل المعتقد أن الروح الوارد ذكرها في آية سورة المجادلة ليست هي الروح التي ينصر بها عباد الله آخر الزمان هو القائل على الله تعالى ورسوله بغير علم ولا كتاب منير .

والرسول نص على خبر هذه الروح كما ورد في حديث عمر وأبي مالك الأشعري ، وجاء خبرها عند أهل الكتاب على ما بينت سابقاً ، وهي مراد اليهود عندما سألوا الرسول عن الروح .

والله عز وجل أكد في هذه الآيات على إيمـان هؤلاء وفلاحهم ، وفي سورة المجادلة أثبت لهم الإيمان بنفي موالاة من يحاد الله ورسوله ، كما أثنى على إيمانهم في أول سورة البقرة ، وبين أنه إيمان بالغيب وبما أنزل الله على رُسُلِه ، مثل ما أكد على إيمانهم في سورة يونس وجعل لهم البشرى .

ويكفي في بيان إيمان هؤلاء ودرجته أن الله قضى بكتابته في قلوبهم ، وهذا أيضاً مندرج في عداد كلمات الله المكتوبة التي لا تبديل لها . واختلف في المراد بكتبَ هنا ، والحق إنشاء الله تعالى أن المراد : قدر وقضى إيمانهم شرعاً وقدراً ، وأن إيمانهم كائن منهم لا باعتبار أثر تعلق إرادتهم الخاصة بل بتعلق إرادة الله الخاصة والمقدرة لوجودهم شرعاً وقدراً ، ولهذا أضاف إيمانهم لكتابته سبحانه ، ومن تعذر عليه إدراك المعنى المراد في حقيقة هذا الإيمان ، فما عليه إلا إعمال الفكر وترديد النظر في قول رسول الله : ( المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ) رواه أحمد وابن ماجة ( 59 )

وفيه دليل على خصوصية الهداية وإرادة الاجتباء ، وهي إرادة مقدرة بوقت معلوم ، يتجلى أثرها على شخص معين مجتباً في ذلك الوقت المعلوم ، ولا مدخل لإرادة البشر في هذا كله ، هذا هو الوجه في كتابة الإيمان ، فافهم .

وقد اضطربت أقوال الناس في جملة أحاديث وردت في خبر هذا الإيمان وأصحابه ، واجتهد بعضهم في تأوليها ، وكلها جارية على هذا الأصل المقرر هنا وهو : أنهم قوم آمنوا بالله ورسوله ونالوا بفضل من الله منزلة عظيمة خصهم الله بها من دون سائر الأولياء ، ويكون وجودهم آخر الزمان ، ينصرون بالروح التي هي البشرى ! اهـ .

----------

( 1 ) سورة الشورى ( 52 ) .

( 2 ) سورة غافر ( 15 ) .

( 3 ) ذكر هذا في تبيانه  هذا التبان في منتدى أنا المسلم ( المشاركة باسم ah313 بتاريخ 12/4/2002 برقم 40 ) وهو مما طرحه فيما بعد عن التوحيدية باسم التهذيب ، ومن باب ردي عليه بالتفصيل أثبت ذلك هنا وهو أنفع للمطلع ليعرف حقيقة أقوال هذا الجاهل والرد عليه بالتفصيل .

( 4 ) ذكره الحافظ في الفتح عنه (8/511) .

( 5 ) سورة الإسراء (85) .

( 6 ) رواه البخاري في الصحيح وأحمد والطيالسي وأبو يعلى .

( 7 ) في الكبير والأوسط .

( 8 ) متفق عليه .

( 9 ) إشعيا (11/1) .

( 10 ) إشعيا (42/1) .

( 11 ) إشعيا (61/1) .

( 12 ) سورة الدخان (16) .

( 13 ) دانيال الإصحاح (7) .

( 14 ) سورة المائدة (41) .

( 15 ) إنجيل برنابا (94) . وهو في المزامير (110/1) ، وقد عبث اليهود بلفظ هذه النبوءة تمويها .

( 16 ) رواه ابن المبارك في الزهد (371) .

( 17 ) يوئيل الإصحاح الثاني (2/28) . 

( 18 ) سورة الدخان (10- 13) .

( 19 ) سورة النحل (48) .

( 20 ) سورة الإسراء (77) .

( 21 ) سورة البقرة (111) .

( 22 ) سورة يونس (62-64) .

( 23 ) رواه في كتاب التعبير ، الفتح (12/375) .

( 24 ) ذكره في كتاب الصلاة ، شرح النووي (4/196) .

( 25 ) ومثل هذا اللفظ روي عن عائشة ، راجع الفتح (12/375) .

( 26 ) روي عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله عن قول الله سبحانه : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له . رواه مالك في الموطأ (2/958) والترمذي (4/534) وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي . قال الحاكم يشهد له حديث أبي صالح السمان عن عطاء بن يسار قال : سألت أبا الدرداء عن قوله تعالى : ( لهم البشرى ) . فقال : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له . وفي الحديث أنه سأل عنها رسول الله . المستدرك 4/391 ورواه الترمذي عن أبي الدرداء من غير هذا الوجه ، وفيه التصريح بالرفع . قال الحافظ : وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو . الفتح (2/375) .

( 27 ) سورة الأنعام (48) . وسورة الكهف (56) .

( 28 ) سورة الأحزاب (45) .

( 29 ) سورة البقرة (97) .

( 30 ) سورة يونس (2) .

( 31 ) سورة يونس (87) .

( 32 ) سورة يونس (93) .

( 33 ) سورة طه (86) .

( 34 ) سورة النور (55) .

( 35 ) سورة الأنبياء (105) .

( 36 ) سورة الصافات (171-172 ) .

( 37 ) سورة المجادلة (21) .

( 38 ) سورة يونس (34) .

( 39 ) سورة الشورى (14) .

( 40 ) المزامير (68/9) .

( 41 ) المزامير (67/12) .

( 42 ) وابن حبان .

( 43 ) رواه أحمد ، والترمذي من غير ذكر التفسير ، وابن ماجة ، وابن أبي شيبة وأبو يعلى وخلق .

( 44 ) المصنف (11/202) .

( 45 ) المزامير (142/8) .

( 46 ) المزامير (38/5- 21) .

( 47 ) المزامير (88/21) .

( 48 ) المزامير (36/34) .

( 49 ) المزامير (111/7) .

( 50 ) سورة الأنبياء (105) .

( 51 ) نص هذه الجملة هكذا ذكرها القس إكرام نمعي في الاختراق الصهيوني للمسيحية (176) . أما نص النبوءة في كتابهم على حسب المدون بالترجمة العربية : بأيام الكمله . النسخة البروتستانتية . وأما الكاثوليكية : أيام السلماء .

( 52 ) حزقيال (11/19) .

( 53 ) وقال أبو حاتم : ليس به بأس ، أحاديثه عن شهر صحاح ، لا أعلم روي عن شهر أحاديث أحسن منها ، ولا أكثر منها ، قلت يحتج به ؟ قال : لا ، ولا شهر ، ولكن يكتب حديثه اهـ . إي للإعتبار . تاريخ الخطيب (11/58) وقال الترمذي : سألت البخاري عن شهر فوثقه اهـ (4/434) راجع شرح علل الترمذي لإبن رجب (398) .

( 54 ) وأبو عمر في التمهيد وصححه الحاكم والذهبي .

( 55 ) إصلاح غلط المحدثين (136) .

( 56 ) مسند الطيالسي (78) ، ورواه ابن حبان ، والحاكم باختصار .

( 57 ) سور المجادلة (22) .

( 58 ) سورة البقرة (3-5) .

( 59 ) وأبو نعيم في الحلية (3/177) وقال : غريب من حديث محمد ، رواه ياسين وسالم بن أبي حفصة عن إبراهيم بن محمد عن أبيه عن علي رفعه اهـ . قال صاحب تهذيب التهذيب وقع في سنن إبن ماجه عن ياسين غير منسوب فظنه بعض الحفاظ المتأ خرين ياسين بن معاذ الزيات فضعف الحديث به فلم يصنع شيئاً اهـ . (11/173) وقال المزي : ياسين بن شيبان ويقال ابن سنان العجلي الكوفي .