الفصل الخامس
نزول الرب للأرض آخر الزمان ليكون شهيدا ورسله على الخلق
ولنزيدكم هنا بما يفضح جهلكم ويزري على عقولكم وفهمكم لحقيقة دينكم ، أن عرشه عز وجل سيحمل ويستقر به بمكان لطالما لم تلتفتوا لمن نادى بخبره وبين أدلته ، فهل لو كان حيا ابن تيمية ستجدونه سيجادل ببطلان ذلك كون مكان العرش لا يكون إلا فوق الأفلاك ، وليس في الأرض سواء في " يهو شافاط " ، أو بطيبة المقدسة فوق جبلها المقدس ؟!
نعم ، سيحمل العرش هناك وذلك مصرح بخبره في الزبور والإنجيل وجملة من الأنبياء ، فإن تلك ستكون المقدمة العظمى والمفاجأة للجميع بالفضح والكشف والحساب ، قبل ما يكون عليه الفضح بصورة أشمل وأكبر لاجتماع كل الخلائق ، أما تلك المقدمة بمدينة السلام فهي مختصة بمن هم أحياء اليوم فتلك مقدمة لتلك ومؤذنة بقرب النهاية .
ويجمعون هناك بالشهداء من الأنبياء والرسل ليحكم الله تعالى لدينه ورسله وربك فعال لما يشاء سبحانه ، وحتى يعرفوا أن عقولهم حقا محجوبة عنه تعالى بل عن الكثير من الحقائق العظيمة في شريعته ودينه مثل ما هي محجوبة عن حقيقة وجوده تعالى والكثير من أسراره في خلقه وكيف قدر النهايات والخواتيم عز وجل والعواقب ، قال في زبوره عليه الصلاة والسلام : ﴿ هُنَاكَ اسْتَوَتِ الْكَرَاسِيُّ لِلْقَضَاءِ ... لِيَسْتَرِحْ مُحِبُّوكِ ، لِيَكُنْ سَلاَمٌ فِي أَبْرَاجِكِ ، رَاحَةٌ فِي قُصُورِكِ ﴾ *.
ويسأل المسيح عليه الصلاة والسلام أحد تلاميذه فيقول : تركنا كل شيء لنتبعك فما مصيرنا ؟ ، قال : إنكم لتجلسون يوم الدينونة بجانبي لتشهدوا على أسباط اسرائيل الإثني عشر اهـ . وعد ذلك من قضاء الله تعالى المنتظر .
وهناك مما قاله المسيح صلوات ربي وسلامه عليه ما به تبين اتخاذ تلاميذه المخلصين شهداء على اعدائه من بعد رفعه وبعد ما يرجع للدنيــا ،
فهم بكلا الحالين شهداء على الناس ، فقال : ﴿ لا تنسوا الكلام الذي كلمكم الله به على لساني كونوا شهودي على كل من يفسد الشهادة التي قد شهدتها بانجيلي على العالم وعلى عشاق العالم .
ثم رفع يديه إلى الرب وصلى قائلا : أيها الرب إلهنا إله إبراهيم وإله إسماعيل وإسحاق إله آبائنا ، ارحم من أعطيتني وخلصهم من العالم لا أقول خذهـــم
من العالم لأنه من الضروري أن يشهدوا على الذين يفسدون انجيلي ولكن أضرع إليك أن تحفظهم من الشرير حتى يحضروا معي يوم الدينونة يشهدوا على العالم وعلى بيت إسرائيل الذي أفسد عهدك ..
إيها الرب الإله إلعن إلى الأبد كل من يفسد انجيلي الذي أعطيتني عندما يكتبون أني ابنك ، لأني أنا الطين والتراب خادم خدمك ولم أحسب نفسي قط خادما صالحا لك .
أيها الرب الجواد والغني في الرحمة امنح خادمك أن يكون بين أمة رسولك يوم الدين ﴾ .
وكثير من الجهلة يحسبون الشهادة لا تقوم ببعض الأنبياء قبل يوم القيامة الكبرى ، بل تقوم قبل ذلك وربي فاقرأوا للمسيح عليه الصلاة والسلام ماذا يقول في هذا الخصوص : ﴿ سأعود قبيل النهاية وسيأتي معي أخنوخ وإيليا ونشهد على الأشرار الذين ستكون آخرتهم ملعونة ﴾ ، ﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ . وسيعود معهم المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضا ، وستوضع هناك كراسي للشهداء على الأشرار من كل أمة وملة وإخباره تعالى عن ذلك صريحة لكن أكثر الناس لا يعلمون : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ﴾ , ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ , ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً﴾ ، ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾, ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ , ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ، هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ ، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴾ , ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ .
وحتى المهدي حفيد المصطفى صلى الله عليه وسلم كتب بقضاء الله عز وجل شاهدا مع الأنبياء والرسل ، ذلك في قوله تعالى : ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ﴾ ، ولأن هذا النص القرآني حمال أوجه فلا بد من الوقفة معه على الخصوص وسأورد لاحقا ما يدل على أن المهدي من الأشهاد حقا من أخبار الأنبياء ، فالأحمدية لما جمعهما الله عز وجل بها كان الإشهاد من ذلك ، وهو أحد الأوجه في معنى الآية السابقة ، فإن كان الذي على البينة بمراد الله تعالى هو النبي صلى الله عليه وسلم فحفيده التالي وهو الشاهد ، أما إن كان الذي على البينة هو الحفيد المهدي ، فالتالي هو الجد المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه المبارك ، ولعل حكمة الله تعالى اقتضت لاشتراكهما بالأحمدية أن يأتي المعنى مستديرا استدارة وجهي القمر وهو معنى نبوئي بحد ذاته كالبشارة تماما ، فالجد بشر بالحفيد وعاد الحفيد مبشرا بالجد فسبحان الحكيم العليم ما أعجب تقديره وتدبيره ومكره بالظالمين : ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾.
وفي الزبور قيل عنه هناك لنيله تلك المنزلة العلية : ﴿ تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِكَ ، لِكَيْ أَشْهَدَ نَجَاحَ مُخْتَارِيكَ وَلأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ ، وَأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ ﴾ ، يريد أن يكون معهم شاهدا لذلك ، فحكاه الله تعالى على لسانه في الزبور مثل ما حكى ذلك بالقرآن على ألسنة تلاميذ المسيح ، وإلا كما ورد بنص الإنجيل المسيح هو من أخبرهم عن ذلك جزاء لهم لما قال التلميذ : " تركنا كل شيء لنتبعك فما مصيرنا ؟ " اهـ .
فكان الجزاء أنهم كتبوا مع الشهداء : ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ .
لكن يبقى ما يجب ذكره هنا بالنسبة للنص من الزبور في طلب الشهادة ، فقد لا يكون المعني بذلك المهدي بل داود نفسه عليه الصلاة والسلام فاحتمال أن المعني به هو نفسه محتمل وأنه طلب بما قاله هنا أن يكون من الأشهاد الذين سيقفون بوجه الأمم الكافرة كلها والشعوب المتمردة آخر الزمان ، وقد ورد ذلك عنه بنصوص أخرى من زبوره صريحة كهذا النص : ﴿ فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي : إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ .. تَقِفُ أَرْجُلُنَا فِي أَبْوَابِكِ يَا أُورُشَلِيمُ ، أُورُشَلِيمُ الْمَبْنِيَّةُ كَمَدِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ كُلِّهَا ، حَيْثُ صَعِدَتِ الأَسْبَاطُ شَهَادَةً ... لأَنَّهُ هُنَاكَ اسْتَوَتِ الْكَرَاسِيُّ لِلْقَضَاءِ ، لِيَسْتَرِحْ مُحِبُّوكِ لِيَكُنْ سَلاَمٌ فِي أَبْرَاجِكِ ، رَاحَةٌ فِي قُصُورِكِ ﴾ . ويجب أن يفهم أن داود عليه الصلاة والسلام لا يعني ببيت الرب هنا البيت الذي بناه ابنه سليمان صلى الله عليه وسلم فبحسب كتابهم العهد القديم أن الهيكل انما بناه ابنه وليس هو فلم يعاصره داود ليذهب له ويقف برجله على أبوابه ، فكيف بأورشليم التي هي بأكاذيبهم مستقر الهيكل ؟! ، وإنما المراد بها هنا مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويفيد هذا النص من الزبور وتلك النبوءة أن داود عليه الصلاة والسلام سيذهب لبيت الله عز وجل مكة ، وأن رجله ستقف على أبواب المدينة ، وأن الأسباط سيأتون هناك لإقامة الشهادة ، والسياق هنا صريح في كل ذلك .
وبمكان آخر من الزبور هو يصرح بطلب ذلك ، بل النص هناك ورد أيضا بصيغة الجمع فقال : ﴿ يَا إِلهَ الْجُنُودِ ارْجِعَنَّ ، اطَّلِعْ مِنَ السَّمَاءِ وَانْظُرْ وَتَعَهَّدْ هذِهِ الْكَرْمَةَ وَالْغَرْسَ الَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ ، وَالابْنَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ ، مِنِ انْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ . لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ ، وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ ، فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ . أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ ، أَرْجِعْنَا ، أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ ﴾ .
وهذا شبه صريح من داود عليه الصلاة والسلام بأنه سيكون من الشهداء آخر الزمان ويشهد له في القرآن لقوله في الزبور مشبها اياهم بالغرس : ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ ، إن الله عز وجل يرعى ذلك الغرس ليغيظ بهم الكفرة الأشرار آخر الزمان وانظر لقوله في الزبور عن ذلك ﴿ مَسَالِكُ الرَّبِّ كُلُّهَا رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِمَنْ يَحْفَظُونَ عَهْدَهُ وَشَهَادَاتِهِ ﴾ . فهم ومن يقبل معهم في ذاك المقام غرس الله تعالى ، يقول النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ وشعبك كلهم أبرار إلى الأبد يرثون الأرض غصن غرسي عَمَلُ يديَّ لأتمجد ﴾ ، ﴿ فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ ﴾ .
ويقول النبي ارميا عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَأَجْعَلُ عَيْنَيَّ عَلَيْهِمْ لِلْخَيْرِ وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ وَأَبْنِيهِمْ وَلاَ أَهْدِمُهُمْ وَأَغْرِسُهُمْ وَلاَ أَقْلَعُهُم ﴾ .
ويقول حزقيال عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَيَسْكُنُونَ فِي أَمْنٍ عِنْدَمَا أُجْرِي أَحْكَامًا عَلَى جَمِيعِ مُبْغِضِيهِمْ مِنْ حَوْلِهِمْ ، فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمْ ﴾ .
فهذا مقامهم وشأنهم والله حافظهم والنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم سيدهم وامامهم ، قال : " اللهم اجعلنا من عبادك المنتخبين الغُرِّ المُحجلين ، الوفد المتقبلين " . قالوا : فما الوفدُ المُتقبلون ؟ قال : " وفد يفدون من هذه الأُمةِ مع نبيهم إلى ربهم " . " رواه أحمد في المسند "
وطلبه هنا صلوات ربي أن يكون في جملتهم اعجوبة من عجائب تلميحاته بأبي وأمي هو عن رجعته واخوانه الأنبياء ممن انتخبهم الله عز وجل ليكونوا في جملة الشهداء آخر الزمان غرا محجلين ، وقد قال بها صريحة المسيح عليه الصلاة والسلام : ﴿ سأعود قبيل النهاية وسيأتي معي أخنوخ وإيليا ونشهد على الأشرار الذين ستكون آخرتهم ملعونة ﴾ وفي موضع قال : ﴿ معي أخنوخ وإيليا وآخر ﴾ ، نكر الآخر ولم يصرح باسمه فإما يريد به المصطفى أو موسى صلوات ربي وسلامه عليهما .
ويقول النبي اشعيا صلى الله عليه وسلم في بيان مقام المهدي في الشهداء : ﴿ ها أَنَا قَدْ جَعَلْتُهُ شَاهِداً لِلشُّعُوبِ زَعِيماً وَقَائِداً لِلأُمَمِ انْظُرْ ، إِنَّكَ تَدْعُو أُمَماً لاَ تَعْرِفُهَا ، وَتَسْعَى إِلَيْكَ أُمَمٌ لَمْ تَعْرِفْكَ ﴾ .
وفي الزبور أيضا قال فيه : ﴿ معه أمانتي ورحمتي وباسمي قرنهُ يرتفع فأجعل على البحر يده وعلى الأنهار يمينه ، يدعوني إلهي وصخرةُ خلاصي ، وأنا أجعله بكرا عليا فوق ملوك الأرض ، إلى الأبد أحفظ له رحمتي ويبقى له عهدي أكيدا .. مثل القمر يكون راسخا إلى الأبد وشاهدا في الغيوم أمينا ﴾ .
فقوله : ( أجعل على البحر يده ) تنبيه على أعظم بهاء المهدي وأقوى سلطة له من الله عز وجل لا يضاهيها إلا قوة البرق تسلط بيده أيضا على رؤوس الكفرة الأشرار ، وهو باب عظيم لو فتح الحديث عليه لأتتكم العجائب وهذه الإشارة من الزبور تفيد بأن عصا الله عز وجل التي كانت بيد موسى صلى الله عليه وسلم ستكون بيد المهدي لتأديب العصاة الكفرة الأشرار فكما كانت في زمان موسى ستكون في هذا الزمان والجيل الملعون قرن الشيطان ، وقد تواترت النبوءات على بيان ذلك والإشارة إليه وسيأتي في ختام هذا الفصل وقفة مطولة في بيان هذا الأمر إن شاء الله تعالى .
وعند اشعيا النبي صلى الله عليه وسلم قال : ﴿ اِجْتَمِعُوا يَا كُلَّ الأُمَمِ مَعًا وَلْتَلْتَئِمِ الْقَبَائِلُ ، مَنْ مِنْهُمْ يُخْبِرُ بِهذَا وَيُعْلِمُنَا بِالأَوَّلِيَّاتِ ؟ لِيُقَدِّمُوا شُهُودَهُمْ وَيَتَبَرَّرُوا ، أَوْ لِيَسْمَعُوا فَيَقُولُوا : صِدْقٌ .أَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ ، وَعَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ ﴾ . ويكفي المهدي عليه الصلاة والسلام أن قرن الله عز وجل شهادته مع شهادته سبحانه في ذلك فقال : ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾ ، وهذا النص وان كان عاما ويراد به كافة الشهداء فالمهدي حتما داخل في جملتهم لما ذكرت من نصوص عنه وأيضا لعلمه بالكتاب مثلهم ، فكل من آتاه الله عز وجل علما بذاك الكتاب الذي لا ريب فيه فهو من الأشهاد الذي سيرجعون آخر الزمان بعد أن يقع القول على الأشرار ويكون تحقق التأويل ، ليشهدوا بالحق على أولئك الأشرار أنهم كانوا كفرة ومفترين على الله تعالى ورسله ولتصديق نبوة ورسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم . وقد تعهد المولى عز وجل برعايتهم في الزبور على ما مر معنا قبل قليل ذكر ذلك : ﴿ مَسَالِكُ الرَّبِّ كُلُّهَا رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِمَنْ يَحْفَظُونَ عَهْدَهُ وَشَهَادَاتِهِ ﴾ .
وتكفي شهادة الله عز وجل في ذلك يومئذ لكنه تعالى يحب يقيم الحجج على الناس : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ , ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ .
وبالأنبياء قال في ذلك ميخا عليه الصلاة والسلام : ﴿ اسْمَعُوا يَا جَمِيعَ الشُّعُوبِ ، وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ وَكُلُّ مَنْ فِيهَا ، وَلْيَكُنِ السَّيِّدُ الرَّبُّ مِنْ هَيْكَلِهِ الْمُقَدَّسِ شَاهِداً عَلَيْكُمْ ﴾ .
ويقول النبي صفنيا صلوات ربي وسلامه عليه في ذلك :﴿ انْتَظِرُونِي لأَنِّي عَزَمْتُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَقُومُ فِيهِ كَشَاهِدٍ أَنْ أَجْمَعَ الأُمَمَ وَأَحْشُدَ الْمَمَالِكَ لأَسْكُبَ عَلَيْهِمْ سَخَطِي وَاحْتِدَامَ غَضَبِي ، لأَنَّ الأَرْضَ بِكَامِلِهَا سَتُؤْكَلُ بِنَارِ غَيْرَةِ غَيْظِي ﴾ . من ينتظره ؟!
ينتظره الأشهاد فهذا نبي الله تعالى حبقوق يخبر عن رؤيا له قال : ﴿ فَأَجَابَنِي الرَّبُّ وَقَالَ : اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح حتى يُسْرعُ في قرآءَتها ، فإن الرؤيا للميقات وفي الانقضآء تظهر ولا تكذب ، إن أبطأت فانتظرها فإنها ستأتي إتيانا ولا تتأخر ﴾ .
وسيقيم شهادة رسله مع شهادته لما يقوم شاهدا على الخلق في ذلك الزمان ، وهكذا تم له التدبير ضد أعدائه وهذا هو مكره بهم وهم لا يشعرون ، ولقد اشار له في أكثر من موضع في القرآن .
ويقول النبي ملاخي عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضا : ﴿ وَأَقْتَرِبُ مِنْكُمْ لأَكُونَ شَاهِداً سَرِيعاً ضِدَّ السَّحَرَةِ وَالزُّنَاةِ وَالْحَالِفِينَ بِالزُّورِ وَالْمُسْتَغِلِّينَ لأُجْرَةِ الْعَامِلِ وَمُضْطَهِدِي الأَرَامِلِ وَالأَيْتَامِ وَالَّذِينَ يَظْلِمُونَ الْغُرَبَاءَ وَلاَ يَخَافُونَنِي ﴾ ويعني بالاقتراب هنا أن يظلهم الغمام ويكون عرشه هناك ومسكنه هناك في جبل الرب جبل أحد المقدس ، مثل ما كان يصاحبهم الغمام قبل في بني إسرائيل في زمان موسى صلوات ربي وسلامه عليه ، وكما فعل مع سليمان لما أنجز بناء المسجد وأراد أن يدخل التابوت فيه ، فغشاهم وقتها الغمام وقال سليمان عليه الصلاة والسلام حينها : ﴿ الرَّبُّ إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي الضَّبَابِ ﴾ .
ومثله ما سيكون عليه الحال في المدينة طيبة المقدسة ، صرح بذلك النبي حزقيال عليه الصلاة والسلام فقال عن المولى عز وجل : ﴿ وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد ، ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلها ويكونون لي شعبا ، فتعلم الأمم أني أنا الرب ﴾ . وهذا لن يكون إلا بغشيان الغمام من فوقهم على ما فهمتم هنا وصرح به النبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، وكذلك النبي أيوب عليه الصلاة والسلام القائل : ﴿ يَحْجِبُ وَجْهَ كُرْسِيِّهِ بَاسِطًا عَلَيْهِ سَحَابَهُ ﴾ .
وفي الزبور قال:﴿السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ ، الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ﴾.
ويقول : ﴿ الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ . عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ ﴾ .
ويفهم من هذا أن الكرسي في عرف الأنبياء يطلق ويراد به العرش وليس للملوك عرش وكرسي ، بل الكرسي هو العرش ، فيطلق عليه تارة بهذا الاسم وتارة بالاسم الآخر كما يفيد بذلك نصوص تلك النبوءات ، ولهذا وقع الاختلاف في المسلمين وخاضوا في الفرق في ذلك ، وإن صحت المغايرة بينهما ، فالكرسي آكد أن يكون كناية عن الحكم والقضاء كما في الزبور مقرر هذا المعنى بقوله : ﴿ الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ ﴾ ، وقوله : ﴿ أَمَّا الرَّبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ يَجْلِسُ ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ ﴾ .
﴿ يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ يَرْفَعُ الْفَقِيرَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِلْجُلُوسِ مَعَ الشُّرَفَاءِ وَيُمَلِّكُهُمْ كُرْسِيَّ الْمَجْدِ ﴾ . " صموئيل "
وفي القرآن قوله عز وجل عنه : ﴿ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ .
ويؤكد النبي حزقيال ثانية على هذا المعنى كون هذا التأويل سيكون آخر الزمان ، فيقول الرب عز وجل على لسانه : ﴿ وَأَتَجَلَّى بِقَدَاسَتِي بَيْنَكُمْ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ الأُمَمِ ﴾ .
ولا تجلي للرحمان عز وجل إلا بما قرر لكم هنا بالغمام ، وهذا سيكون بتمكينه للمهدي يصرح به نبي آخر واسمه عوبديا عليه الصلاة والسلام فيقول : ﴿ جَبَلُ الرب يُصْبِحُ مَلاَذَ النَّجَاةِ ، وَيَكُونُ قُدْساً ... ، وَيُصْبِحُ الْمُلْكُ لِلرَّبِّ ﴾ .
ويأتي في ارميا النبي صلى الله عليه وسلم ما دلالته بينة على أن ذلك سيكون في زمان التمكين للمهدي عليه الصلاة والسلام فيقول هناك : ﴿ وَيَكُونُ قَائِدُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَخْرُجُ حَاكِمُهُمْ مِنْ وَسَطِهِمْ فَأَسْتَدْنِيهِ فَيَدْنُو مِنِّي ، إِذْ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى الاقْتِرَابِ مِنِّي مِنْ نَفْسِهِ ، وَتَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً ﴾ .
فهذه معية خاصة تشبه تقريبه لموسى الكليم لما قال عنه : ﴿ وقربناه نجيا ﴾ .
يقول عنها في الزبور : ﴿ عَظِيمٌ مَجْدُهُ بِفَضْلِ خَلاَصِكَ ، بِالْعِزَّةِ وَالْبَهَاءِ كَلَّلْتَهُ ، لأَنَّكَ جَعَلْتَهُ أَكْثَرَ الْمُبَارَكِينَ إِلَى الأَبَدِ ، تَغْمُرُهُ بِفَيْضِ الْفَرَحِ فِي حَضْرَتِكَ ﴾ .
وقال فيه اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ في ذلك اليوم يكون غصن الرب بهاءً ومجدا ﴾ .
وفي اشعيا النبي عليه الصلاة والسلام فيصرح على لسانه بما يلي : ﴿ السَّمَاءُ عَرْشِي وَالأَرْضُ مَوْطِئ قَدَمَيَّ ﴾ . كناية عن القدرة والإحاطة المطلقة بكل من سواه ، وإلا للعرش الذي استوى عليه اختصاص بذلك أكثر من السماء ، وأكثر من الأرض بحد ذاتها ، لكن هكذا خرج ذلك مخرج البيان عن كامل سلطته على الجميع وأن مقدرته أحاطت بالكل .
وبالزبور يقول : ﴿ اللهم فاحكم عليهم وليسقطوا في مؤامراتهم ولكثرة معاصيهم أقصهم فإنهم قد تمردوا عليك ، وليفرح جميع المعتصمين بك وليرنموا إلى الأبد وأنت مُظللهم وليبتهج بك الذين يحبون اسمك ﴾ . يريد يظللهم بالغمام ، ولا أصرح من هذا إلا قوله التالي : ﴿ قم يا رب بغضبك وارتفع عند حنق مُضايقي وتنبه لي إنك أمرت بالقضاء ، فلتحط بك جماعةُ الأُمم وَعُـدْ فَوقها إلى الأَعالي ﴾ . أي من فوق جبل أحد ، فإن الله تعالى إذا أراد يكلم عبدا من عباده لا يكلمه إلا من فوق جبل ، كما حصل مع إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وكما حصل مع كليم الله تعالى موسى صلوات ربي وسلامه عليه ، ومثل ما سيحصل مع المهدي خليفة الله تعالى ورسوله .
وما أجمل ما قاله النبي أشعيا صلوات ربي وسلامه عليه في بيان هذه الحقيقة : ﴿ رُقَبَاؤُكِ قَدْ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ مَعاً وَشَدَوْا بِفَرَحٍ ، لأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عِيَاناً رُجُوعَ الرَّبِّ ﴾ . أو قوله هنا تمعنوا : ﴿ ينزل رب الجنود للمحاربة على جبله على أكمته ﴾.
فكل الأمر سيرجع للإرث الرباني للمؤمنين والجبل المقدس والنصر والتمكين ، قال اشعيا:﴿ أَمَّا مَنْ يَلُوذُ بِي فَإِنَّهُ يَرِثُ الأَرْضَ وَيَمْلِكُ جَبَلَ قُدْسِي ﴾ . فالقدسية أتت الجبل من حلول الرب عليه والغمام والعرش .
وفي الزبور : ﴿ هناك جزعوا جزعا حيث ليس جزعٌ لأن الله في جيل الصديقين ﴾ ، ﴿ يحيطُ بي إكليل من الصديقين حين تكافئني ﴾ .
وزكريا صلى الله عليه وسلم يقول في هذا أيضا : ﴿ وَيُرَى الرَّبُّ فَوْقَهُمْ ، وَسَهْمُهُ يَخْرُجُ كَالْبَرْقِ ، وَالسَّيِّدُ الرَّبُّ يَنْفُخُ فِي الْبُوقِ وَيَسِيرُ فِي زَوَابعِ الْجَنُوبِ ، رَبُّ الْجُنُودِ يُحَامِي عَنْهُمْ فَيَأْكُلُونَ وَيَدُوسُونَ ، وَيَمْتَلِئُونَ كَالْمَنْضَحِ وَكَزَوَايَا الْمَذْبَحِ ، وَيُخَلِّصُهُمُ الرَّبُّ إِلهُهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ كَقَطِيعٍ شَعْبَهُ ، بَلْ كَحِجَارَةِ التَّاجِ مَرْفُوعَةً عَلَى أَرْضِهِ ﴾ . رؤية عين ومراده اختصاص الضباب بهم كما اختص ببني اسرائيل بعد خروجهم من مصر طوال أربعين عاما ، وهم لا يرحلون إلا بأمره ولا يستقرون إلا بأمره ، مصاحبا لهم طوال تلك المدة ويعرفون ذلك ويعاينونه بحضور الغمام ، ومثله سيكون في هذه الأمة وإليه الإشارة بقوله عز وجل : ﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴾ ، أي كما صحبني بنو إٍسرائيل في السابق حتى كان يؤمر من يذهب للخلاء أجلكم الله أن يصحب معه محراث ليدفن فضلات جسمه ، لأنهم في صحبة مقدسة وهم من حول خيمة العهد التي تتجلى فوقها الحضرة القدسية.
واقرأوا ما ألطف ما قاله في الزبور سبحانه على لسان نبيه داود عليه الصلاة والسلام : ﴿ يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ ، لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ ، جَلَسْتَ عَلَى الْكُرْسِيِّ قَاضِيًا عَادِلاً ، انْتَهَرْتَ الأُمَمَ أَهْلَكْتَ الشِّرِّيرَ ، مَحَوْتَ اسْمَهُمْ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى الأَبَدِ ، أَمَّا الرَّبُّ فَإِلَى الدَّهْرِ يَجْلِسُ ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِالْعَدْلِ ، يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاسْتِقَامَةِ ، وَيَكُونُ الرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ ، مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ ، وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ ، لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ ﴾ .
ويقول النبي دانيال عليه الصلاة والسلام في رؤياه : ﴿ كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ ، لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ .
نَهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ . أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ فَجَلَسَ الدِّينُ وَفُتِحَتِ الأَسْفَارُ ﴾.
فهل ستجدون أصرح من هذا وأصدق وأفصح على ما تقرر هنا ؟ وقد تواترت النبوءات على تأكيد هذا المعنى بإقامة عروش للشهداء آخر الزمان لمحاكمة رؤوس الأشرار من الروم ووثنيوا الصين والهند وقد سبق ونقل ذكر ذلك وسأجمعه هنا . ومن ذلك ما ذكرت قريبا عن داود والمسيح عليهما الصلاة والسلام : ﴿ فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي : إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ .. تَقِفُ أَرْجُلُنَا فِي أَبْوَابِكِ يَا أُورُشَلِيمُ ، أُورُشَلِيمُ الْمَبْنِيَّةُ كَمَدِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ كُلِّهَا ، حَيْثُ صَعِدَتِ الأَسْبَاطُ شَهَادَةً ... لأَنَّهُ هُنَاكَ اسْتَوَتِ الْكَرَاسِيُّ لِلْقَضَاءِ ، لِيَسْتَرِحْ مُحِبُّوكِ لِيَكُنْ سَلاَمٌ فِي أَبْرَاجِكِ ، رَاحَةٌ فِي قُصُورِكِ ﴾ ، وقال المسيح مجيبا تلاميذه عن مصيرهم : ﴿ إنكم لتجلسون يوم الدينونة بجانبي لتشهدوا على أسباط اسرائيل الاثني عشر﴾ .
ويقول النبي ارميا صلى الله عليه وسلم : ﴿ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ يُسَمُّونَها كُرْسِيَّ الرَّبِّ ، وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهَا كُلُّ الأُمَم ﴾ . وصدقوني لما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها . متفق عليه
وفي مسلم بلفظ : إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها . انما يريد أن يشير لهذا الأمر الذي اقرره هنا ، رجعة الشهداء للمدينة ليقيم الله تعالى مع شهادته شهاداتهم على جميع الأمم ، ليكسر قرن الشيطان ويعلي قرن الأنبياء والصديق .
ويقول النبي ارميا أيضا : ﴿ لأَنِّي هاأنَذَا دَاعٍ كُلَّ عَشَائِرِ مَمَالِكِ الشِّمَالِ يَقُولُ الرَّبُّ ، فَيَأْتُونَ وَيَضَعُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُرْسِيَّهُ فِي مَدْخَلِ أَبْوَابِها ، وَعَلَى كُلِّ أَسْوَارِهَا حَوَالَيْهَا ، وَأُقِيمُ دَعْوَايَ عَلَى كُلِّ شَرِّهِمْ لأَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَبَخَّرُوا لآلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لأَعْمَالِ أَيْدِيهِمْ ﴾ .
ويقول النبي اشعيا : ﴿ وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ ، إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا ﴾ . ويطنب فيقول : ﴿ هَذَا مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ لِمُخْتَارِهِ ، الَّذِي أَخَذْتُ بِيَمِينِهِ حَتَّى أُخْضِعَ أَمَامَهُ أُمَماً وَأَكْسِرَ شَوْكَةَ مُلُوكٍ ، لأَفْتَحَ أَمَامَهُ كُوَّاتٍ وَلاَ تُوْصَدُ فِي وَجْهِهِ مَصَارِيعُ . هَا أَنَا أَتَقَدَّمُكَ لأُسَوِّيَ الْجِبَالَ بِالأَرْضِ وَأُحَطِّمَ أَبْوَابَ النُّحَاسِ وَأُكَسِّرَ مَغَالِيقَ الْحَدِيدِ ، وَأَهَبَكَ كُنُوزَ الأَقْبِيَةِ الْمُظْلِمَةِ وَذَخَائِرَ الْمَخَابِئ ، لِتَعْرِفَ أَنِّي أَنَا هُوَ الرَّبُّ الَّذِي دَعَاكَ بِاسْمِكَ ، لَقَّبْتُكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْرِفَنِي .
أَنَا هُوَ الرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي . لَيْسَ هُنَاكَ آخَرُ ، شَدَّدْتُكَ مَعَ أَنَّكَ لَمْ تَعْرِفْنِي . حَتَّى يُدْرِكَ النَّاسُ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنِّي أَنَا هُوَ الرَّبُّ وَلَيْسَ هُنَاكَ آخَرُ. اقطري أيتها السماوات من فوقُ ولتمطر الغيومُ الصديق ، لتنفتح الأرضُ وليُثمر الخلاصُ ولينبت البِرُّ ، أنا الرب خلقته ... هَذَا مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ القُدُّوسُ : أَتَسْأَلُونَنِي فِي سِيَاقِ الأَحْدَاثِ الآتِيَةِ عَنْهم ، أَمْ تُوصُونَنِي بِعَمَلِ يَدِي ؟ لَقَدْ صَنَعْتُ الأَرْضَ وَخَلَقْتُ الإِنْسَانَ عَلَيْهَا ، وَيَدَايَ هُمَا اللَّتَانِ بَسَطَتَا السَّمَاوَاتِ ، وَأَنَا أَمَرْتُ كَوَاكِبَهَا.
أَنَا أَقَمْتُ مُختارِي لِيُجْرِيَ الْعَدْلَ ، وَأَنَا أُمَهِّدُ طُرُقَهُ كُلَّهَا ، فَيَبْنِي مَدِينَتِي وَيُطْلِقُ سَرَاحَ أَسْرَاي ، لاَ بِثَمَنٍ وَلاَ لِقَاءَ مُكَافَأَةٍ ، يَقُولُ الرَّبُّ الْقَدِيرُ.
يَقُولُ الرَّبُّ : يَأْتِي إِلَيْكُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْكُوشِيُّونَ وَالسَّبَئِيُّونَ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُونَهُ مِنْ ثَرْوَاتٍ ، وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَقْدَامِكُمْ ، وَيَصِيرُونَ رَعَايَاكُمْ ، يَمْشُونَ خَلْفَكُمْ مُصَفَّدِينَ بِالأَغْلاَلِ ، وَيَخُرُّونَ سَاجِدِينَ أَمَامَكُمْ قَائِلِينَ : حَقّاً إنَّ الرَّبَّ مَعَكُمْ ولاَ إِلَهَ سِوَى إِلَهِكُمْ . هُوَ وَحْدَهُ الإِلَهُ لاَ غَيْرَهُ ﴾ .
ويقول صلوات ربي وسلامه عليه في ذكر هذا المجد : ﴿ يُعَمِّرُ الْغُرَبَاءُ أَسْوَارَكِ ، وَيَخْدُمُكِ مُلُوكُهُمْ ... لِيَحْمِلَ إِلَيْكِ النَّاسُ ثَرْوَةَ الأُمَمِ ، وَفِي مَوْكِبٍ يُسَاقُ إِلَيْكِ مُلُوكُهُمْ ، لأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْضَعُ لَكِ تَهْلِكُ ، وَهَذِهِ الشُّعُوبُ تَتَعَرَّضُ لِلْخَرَابِ السَّاحِقِ ﴾ .
وفي الزبور : ﴿ ليَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِهَذَا الْمَجْدِ لِيَهْتِفُوا فَرَحاً فِي أَسِرَّتِهِمْ لِيَهْتِفُوا مُسَبِّحِينَ الرَّبَّ مِلْءَ أَفْوَاهِهِمْ وَلْيَتَقَلَّدُوا بِسَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ فِي أَيْدِيهِمْ ، لِتَنْفِيذِ الانْتِقَامِ فِي الأُمَمِ ، وَمُعَاقَبَةِ الشُّعُوبِ .
لِيُقَيِّدُوا مُلُوكَهُمْ بِالسَّلاَسِلِ وَشُرَفَاءَهُمْ بِأَغْلاَلٍ مِنْ حَدِيدٍ لِيَتِمَّ فِيهِمْ حُكْمُ اللهِ الْمَكْتُوبُ ، فَيَكُونَ هَذَا تَكْرِيماً لِجَمِيعِ قِدِّيسِيهِ ﴾ . وكما قلت مرارا اذا تطابق كتاب الله تعالى القرآن مع كتاب الله عز وجل الزبور على معنى فإلى ذلك المنتهى ، فكيف وتواتر نبوءات على ذلك محقق كما ترون .
قال عز وجل بكتابه القرآن المجيد : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ . فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ . إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ . وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ . وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ . وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ﴾.
قدم على مجيئهم إليه بالذكر محشورون يوزعون خروج الدابة ونص على أن ذلك لوقوع القول عليهم ، واعقب بذكر مجيئهم إليه للتوبيخ والدعوى عليهم بتكذيب آياته وعدم احاطتهم علما بذلك ، أن كل ذلك لم يكن إلا لوقوع القول عليهم ، ليعرف أن كل ذلك وهم بالدنيا على ما تقرر هنا ولله الحمد على هداه ونعمته العظيمة ، ولو عاندنا وكابرنا لكنا مع هؤلاء المثبورين الذي جحدوا آياته عز وجل ولم يحيطوا بها علما ، ولكنا وإياهم كبلقيس حين نكر سليمان عليه الصلاة والسلام عليها عرشها حتى يرى تعرفه أو لا ، فيعرف بذلك إن كانت من المهتدين ، وهؤلاء الكفرة الملاعين بعد كل بياني ونشر هدى الله تعالى لي بينهم لا زالوا لا يهتدون والعرش هنا عرشه لا عرش بلقيس وبه كل تلك النصوص عن الأنبياء ، والله يضرب بما يشاء الأمثال لعلهم يهتدون : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ ، فويل للمكذبين الكارهين قضائه وحكمه تبارك وتعالى وما كتب وقدر آخر الزمان من خواتيم .
وتيقنوا بأن كل من يكذب أمر الله تعالى هذا ويجحد آياته فهو من الكفرة بما أنزل على النبي محمد صلوات ربي وسلامه عليه وبما أنزل من قبله ، كارهون ما قدر وقضى الله العزيز الحكيم ، فتبارك الله الغني عن العالمين له الحكم والأمر وهو أرحم الراحمين.
وانظروا للتأكيد الآخر على أن تأويل هذا وهم بالدنيا قوله عز وجل : ﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾ ، لأنه بخروج الدابة عليهم ذلك لا يكون إلا بأن يحق عليهم القول وإذا حق وقع ، ووصف هنا من حق القول أنهم لا يؤمنون وأن مصيرهم للأغلال في أعناقهم ليقادوا لمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم للمحاكمة والفضح ، فهل أنتم موقنون ؟
وللتأكيد على ذلك قال : ﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ، وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً ، يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ، إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾ . والزلازل من أظهر امارات بعث المهدي وهو رسول خلاص كما موسى عليهما الصلاة والسلام لذا ورد ذكر هذا بعد هذا مثل ما فعل في سورة الدخان تماما لعل العمي يبصرون والضلال يهتدون ، لكن هيهات اغلق عليهم وسلك في قلوبهم فلا يهتدون ويؤمنون ويبصرون ، كما وعد عز وجل .
ومن اسباب اقتران ذكر هؤلاء غالبا بفرعون وقومه ، غير اختصاص فرعون وقومه ببعث الخلاص الأول على يدي موسى عليه الصلاة والسلام ، كما اختصاص هؤلاء ببعث المهدي خليفة الله تعالى ورسوله ومهديه بالخلاص الثاني ، تطابق حال فرعون ونواياه مع حال هؤلاء الكفرة الملاعين ونواياهم مثل ما تطابق الحال ما بين الخلاص الأول والخلاص الثاني لكن على مقارنة حال فرعون باستكشاف اسباب السماوات مع حال هؤلاء باستكشافهم الحالي وبلوغهم ما بلغوا من مدا بعيدا جدا ومن المضحك جدا مقارنة مقدرة فرعون وجيشه مع مقدرة هؤلاء على الاستكشاف : ﴿ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ، جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْلةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ ، إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ، وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ . لكن والحق يقال فرعون كان أصدق منهم عن نيته لقوله : ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً ﴾ ، أما هؤلاء فيخفون النوايا الحقيقية من وراء كل اطلاعهم ، لكنهم بالمقابل يصدرون بأفلامهم السينمائية عن صراع الجبابرة في السماء وتعدد الآلهة ، بل نزول بعضهم للأرض لتقاتل!! , ومنهم من يموت ويمكن قتله !!
والعامل المشترك بينهم وبين فرعون في ذلك تزيين الأعمال كما قال تعالى عن فرعون : ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ وعن هؤلاء : ﴿ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾ ، اتفقت حالهم أن زينت لهم تلك الأعمال ، وأنها كانت كيدٌ محض منهم .
ومن اسباب اقتران ذكر هؤلاء غالبا بفرعون وقومه أيضا : أن قوم فرعون من بعد يوسف عليه الصلاة والسلام قطعوا بأن لا يبعث الله تعالى من بعده رسولا ، وهؤلاء الملاعين الكفرة الآن يقطعون بذلك من بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكأن الله عز وجل سيتركهم هملا لا حسيب ولا رقيب ، وقد فاجأهم المولى عز وجل بإرساله لمهديه وخليفته كما تفاجأ الفرعون بإرسال موسى صلى الله عليه وسلم وضاق به مثل ما ضاق هؤلاء بإرسال المهدي ، فقال عز وجل عن ذلك في سورة غافر تعريضا للمعاصرين بقصص الأولين نظرائهم : ﴿ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ . وهؤلاء اليوم كحال قوم فرعون ينكرون أن يرسل الله عز وجل رسولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم لكن الله تعالى سيبطل كيدهم ببعث الأشهاد كلهم لا المهدي فقط ، فسبحان الله وهذا تدبيره ما أعظمه ومكره بالظالمين ما أقواه ، ﴿ قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ .
وانظروا لسياق الآيات تلك وما تضمنت من تعريض آخر لهم بعد ذكر هبال فرعون ومدى سخف كيده : ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ، لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ . إنها القصص للعبرة : ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ . ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ، وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ، يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ، ﴿ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ﴾ ، ﴿ قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ ، يريد بعث الأشهاد ، ﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ . إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ ، ﴿ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ .
وبحال كان تطابق حال فرعون وقومه مع حال الأشرار آخر الزمان لهذه الدرجة من التقارب ، شابه الله عز وجل ما بينهم حتى بالمصير والعاقبة ، فمنع أولئك من الإيمان مثل ما منع هؤلاء آخر الأشرار وأشرهم على الإطلاق من الإيمان كذلك حتى يهلكوا وينتهوا من وجه الأرض فقال في حال قوم فرعون على لسان نبيه موسى صلى الله عليه وسلم : ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ ، وقال في نظرائهم : ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ، ﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ، فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ، أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ .
ونعود لذكر الأغلال فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليغزون الهند لكم جيش يفتح الله عليهم حتى ياتوا بملوكهم مغللين بالسلاسل " .
وعنه قال : " يكون عليكم خليفة يؤتى بملوك الروم مصفدين في الحديد " . " أخرجه الداني "
ومما حدث كعب الأحبار : ما أعلم جيشا أعظم أجرا من جيش يأتون الصين فيجيئون بملوك الصين وملوك العقبة في السلاسل ، فإذا جاؤوهم وجدوا ابن مريم قد نزل الشام . " رواه الطبراني في مسند الشاميين "
فمن بقي ؟ وهم رؤوس العالم اليوم وقرونه الملعونة ، لقد أزف الأمر ورب الكعبة ولترونهم كذلك وربي صدق الله تعالى ورسله ، وكذب العميان والصم البكم .
قال النبي اشعيا صلى الله عليه وسلم : ﴿ فيغربل الأمم بغربال البوار ويكون لجام اختلال في لحى الشعوب ، وسيكون لكم نشيد كما في ليلة تقديس العيد وفرح قلب كمن يسير على صوت المزمار آتيا إلى جبل الرب ، وسيسمع الرب جلال صوته ﴾ ، ويقول : ﴿ رنمي وافرحي فهآنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب ، فيتصل أمم كثيرون بالرب في ذلك اليوم ويكونون لي شعبا فأسكن في وسطك فتعلمين أن رب الجنود أرسلني إليك ، ليسكت كل ذي جسد أمام وجه الرب فإنه قد استيقظ من مسكن قُدسِهِ ﴾ . *
وأقول أيضا : لمن يضعف عقله عن تصديق عودة أتباع المسيح أيضا مع الشهداء حتى الأسخريوطي الخائن فهو مع من توضأ من التلاميذ السابقين ، ورجعته لإتمام براءة نبيه عليه الصلاة والسلام من تلك القتلة الشنيعة العار ، وحتى يدرك الناس أنه حقا هو من صلب بدلا من المسيح عليه الصلاة والسلام .
أقول لمن يضعف عقله عن إدراك هذا ليقرأ بتمعن في قوله تعالى : ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ ، فبعده عليه الصلاة والسلام لم يظهـــــــروا بل اضطهدوا وقتلوا وشردوا ، لكن وعده رغم ذلك حق فسيكون ظهورهم يوم يقوم الأشهاد والمقصود آخر الزمان حين تنصب لهم الكراسي أمام كرسي الرب عز وجل ليحاكم الكفار وتثبت لعنة الأشرار بالدنيا قبل الآخرة على ما وعد الله عز وجل القوي الجبار .
وقلت في ردي على المنافق سلمان العودة : فتعين أن مصداق خبر هذه الآية ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ﴾ - لا يكون إلا آخر الزمان عند عودتهم مع عيسى عليه السلام لتحقيق الشهادة ، وهو اختيار القرطبي ذكر ذلك في التذكرة في باب ما جاء أن عيسى إذا نزل يجد في أمة محمد صلى الله علبه وسلم خلقا من حواريه . وذكر فيه حديث عبدالرحمن بن سمرة الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أمتي خلقا من حواريه ) اهـ .
وفي كتابي ( خطأ أهل السنة في فهم حتمية وجود وظهور الطائفة المنصورة الدائم بالأسنة ) قلت هناك : روى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال حدثنا الفضل بن محمد الواسطي قال : حدثنا إبراهيم بن الوليد قال : حدثني أبي قال : حدثنا عبدالملك بن عقبة الأفريقي عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن عبدالرحمن بن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فاجتب رواكبها وهيأ مساكبها وحلق سعفها فأطعمت عاما فوجا ، ثم عاما فوجا ، فلعل آخرها عاما طعما ، يكون أجودها قنوانا وأطولها شمراخا ، والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مريم في أمتي خلفاً من حواريه . " أخرجه القرطبي في التذكرة ص 718 "
قلت : تابع شيخ الترمذي على هذا الحديث أحمد بن عمر بن موسى بن زنجويه ، شيخ أبو الفرج الأصفهاني رواه عنه في كتابه مقاتل الطالبيين .
وهذا يشهد لما قدمت ولا شك وصريح فيه ، وكونه مرفوعا إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام يقوي القلب على هذا المعنى الصحيح في تفسير تلك الآيات ، ولو لم يكن إسناده بالقوي يبقى خير من قول الرأي بالقرآن والتخرص اهـ .
بل أقول أزيد من اكتتاب تلاميذ المسيح للشهادة ، أن بعض الأنبياء اكتتبوا لهذه الشهادة أيضا وهم أرواح بعد لم يخلقوا أجسادا فاقرأوا قوله عز وجل بخصوص ذلك : ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ ، فكيف يؤمنون به وينصرونه لو ما المعني بذلك رجعتهم لينصروه ويشهدوا له بالحق ، فمن هناك كتبت شهادتهم واشهدوا خالقهم على ذلك تبارك وتعالى ، وكفى بالله شهيدا .
ولما بعثوا بأقوامهم وكان من اختارهم منهم للشهادة عز وجل أن نزعوا من أقوامهم كما نزع المسيح وإيليا وإدريس وغيرهم صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين لأجل تحقيق هذه الغاية ، وهؤلاء من عناهم الرب عز وجل بقوله : ﴿ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ . لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ . لِيَوْمِ الْفَصْلِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ .
وبقوله : ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنـوا ويتخذ منكـم شهداء والله لا يحب الظالمين ﴾ .
وقوله تعالى : ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ .
وإن كان هذا في كتاب الله عز وجل في نزع الشهداء فتعالوا نرى ما يوافقه مما قاله الأنبياء في هذا الخصوص .
ولما كان النبي دانيال عليه الصلاة والسلام ممن كتب للإشهاد كان قال له ملاك الله تعالى جبريل عليه السلام ما يلي : ﴿ وأنت اذهب إلى الانقضاء وستستريح وتقوم في قُرعتك إلى انقضاء الأيام ﴾ .
ومثله كتب على إيليا على ما قال المسيح فيه وفي ادريس عليهما الصلاة والسلام ، لكن المهم هنا نقل ما قاله الكاتب لتأريخ ذلك النبي ، قال التالي : وقد اكتتبه الرب لأقضية تجري في أوقاتها اهـ .
وهذا يدل على أنهم كانوا يدركون هذه الحقيقة جيدا وهي مما كتموا عن الناس ، أو حرفوا ، وخرج من ذلك ما خرج بإلزامهم تسليم كتاب العهد القديم كما يسمونه ، وإلا طول ما كان مكتوما بينهم لم يمكن أحد من خارجهم أن يعلم بذلك .
والأهم هنا نقل ما قاله عز وجل بكتابه في هذا الأمر العظيم الجلل مع ما نقل عن الأنبياء حتى يتيقن القارئ مدى التواتر والاتفاق على هذا الأصل العظيم : ﴿ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ . إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ . وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ . وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ﴾ .
يقضي بهذا القضاء وهذا الحكم لأنه إله حق لا إله باطل لا يقدر على أن يبدي ويعيد وأن يقضي بشيء ويحكم فيميز نفسه تعالى بذلك عن آلهة الباطل التي تعبد من دونه ويشرك بها .
وتمعنوا هنا لما كان معنى القضاء أن يكون بما قرر لكم شرحه وبيانه هنا أنه نص مع ذلك على ذكر إخراجه للدابة حتى يفهم أن الأمر مما يتعلق بأحداث آخر الزمان وهم بالدنيا لا بعد خروجهم منها كما بينت ذلك قبل بوقفة احتجاجية مع تلك الآيات .
ومما يميزه هنا أيضا في أمره ببعث الشهداء عن آلهة الباطل التي لا تبدي ولا تعيد ولا تقضي بحكم ولا تخبر بغيب ولا تحيي الموتى وتقدر على بعثهم ، فكان بأمر الشهداء وتدبيره لرجعتهم اثبات هذه المقدرة على بعث الموتى أو من اعتقد أنهم من الموتى ، فكان أمر الشهداء لإثبات هذه الغاية والحكمة العظيمة وهي مقدرته على بعث الموتى ، في جملة حكم وغايات ربانية قدرها تعالى بأمرهم ليعلم أنه الحق وأنه يحيي الموتى وأن ما كان عليه أعدائه الباطل والكذب من إشراك آلهة تعبد من دونه لا تستطيع تحيي مثله الموتى ولا أن تعيد مثل ما أنها لا تستطيع تبدأ أي شيء بالخلق ، فقال في ذلك جل وعلا : ﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ ، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ . وانتبهوا هنا لما كان المقام مقام الشهداء كان الأمر لا زال للتبيين والإعلام ، أما المقام بعد بعث الكافة من القبور للحساب ، فذاك أمر آخر مختلف بالكلية ، فالمقام هناك مقام حساب وعذاب لا تبيين وإعلام ، وهنا يفهم الفرق من دلالة معنى الخطاب الرباني بالآيات السابقة أن المقام ليس كما فهم الكثير بأن البعث هنا البعث العام بل الخاص بأولئك الشهداء * لذلك اقتضى كما قلت التبيين ورفع الاختلاف بالإعلام عن حقيقة من خالفوا أنهم كانوا يكذبون على الله عز وجل ورسله لهذا نزع الله عز وجل أولئك الشهداء من أممهم لتحقيق هذه الحكمة ، فقال عز وجل : ﴿ قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ﴾ ، لا شعور لهم متى يبعث أولئك الأشهاد ، لأنه لا علم لهم بأمر الآخرة وأمر أولئك الأشهاد من أمر الآخرة فحتما لن يعلموا عن شأنهم شيئا ، بل هم بالمحصلة النهائية في شك من ذلك لأنهم عموا عنها وكيف يكون لهم علما بذلك كما لله عز وجل سبحانه وتعالى عما يشركون.
ويقول عز وجل : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ ، ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾ تمعنوا كيف رجعنا لذكر الغمام مع القضاء ورجوع الأمور إليه عز وجل ، ﴿ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ .
وغير هذا كثير في معناه ولقد مر معنا في مقدمة الكتاب بيان ارتباط حلول الرب بالمدينة وبعثه للشهداء بقضاء الرب عز وجل آخر الزمان .
أقول وبعد الرجوع لتقرير الكلام في باب صفات الباري عز وجل وحقيقة ثبوت وجوده الذاتي ما بين الاحتجاب والتجلي : أن المهم هنا اقرار المسيح صلوات ربي وسلامه عليه لما قالوا بنفي إدراك الحواس البشرية لحقيقة وجود المتعال سبحانه وأن ذلك معنى كونه إله محتجب عز وجل ، أي محتجب عن إدراك كل حاسة بشرية وأخصها بالطبع العين محل النظر ، فقال صلوات ربي وسلامه في اقراره بذلك ما يلي : ﴿ إن هذا لهو الحق لذلك سنعرف الله متى صرنا في الجنة كما يعرف هنا البحر من قطرة ماء مالح ﴾ .
بل ماذا أقول أكثر : ذلك مما كتبه الله تعالى بيده ضمن ما كتب بلوحي العهد التي سلمهما ليد موسى الكليم صلوات ربي وسلامه عليه ، فقد صرح بذلك المسيح ابن مريم صلى الله عليهما وسلم فقال يخاطب بذلك رئيس كهنة اليهود على مرأى ومسمع من جمهور غفير في بيت المقدس : ﴿ كتب في عهد الله الحي وميثاقه أن ليس لإلهنا بداية ولا يكون له نهاية .. ومكتوب هناك أن الله لا يُرى وأنه محجوب عن عقل الإنسان لأنه غير متجسد وغير مركب وغير متغير . ومكتوب هناك : أن سماء السماوات لا تسعه لأن إلهنا غير محدود .. وأن إلهنا في كل مكان ﴾ .
ثم رفع يديه صلوات ربي وسلامه عليه فقال : ﴿ أيها الرب إلهنا هذا هو إيماني الذي آتي به إلى دينونتك شاهدا على كل من يؤمن بخلاف ذلك ﴾ . ثم التفت إلى بني إسرائيل وقال : ﴿ توبوا لأنكم تعرفون خطيئتكم من كل ما قال الكاهن أنه مكتوب في سفر موسى عهد الله إلى الأبد ﴾ .
أقول : هذا عهد الله عز وجل للأبد ، لا يغيره هذيان فلاسفة ولا مقلدتهم أهل الكلام ، ولا من خاض معهم من دراويش يحسبون بلغ بهم العقل والقلب والعلم المنتهى في اثبات الصفات لله عز وجل على الوجه الحق الذي يرتضيه وقدره ، لقد ضلوا جميعا وزاغوا عن حق العهد وميثاق الله تعالى العظيم الذي خطه بيده وسلمه لموسى منقوشا على لوحي العهد ، وهم يحسبون أنهم قدروا الله تعالى حق قدره .
فهل آن للناس الإيمان بذلك الحق وتيقنه ؟
هل آن لمن له عقل أن يدرك معنى كتابة ذلك في لوحي العهد بيد الله تعالى وسلمه ليد موسى الكليم صلوات ربي وسلامه عليه ؟
هل آن لهم أن يدركوا معنى ما نص عليه الأنبياء والرب جل وعلا عن نفسه ، فيعرفوا الجمع ما بين النفي والإثبات في رؤية الباري عز وجل ؟
وكيف اليقين بمعرفة جواز ذلك بالدنيا والآخرة يوم الحساب وفي الجنة ، وعدم جواز ذلك على الإطلاق على ما أفاد ذلك الكثير من النصوص عنهم ؟
واقرأوا ما يقرر المسيح صلى الله عليه وسلم في خصوص ما كتب الله تعالى لموسى وأنزل عليه : ﴿ كل ما ينطبق على كتاب موسى فهو حق فاقبلوه لأنه لما كان الله واحدا كان الحق واحدا ، فينتج من ذلك أن التعليم واحد وأن معنى التعليم واحد فالإيمان إذا واحد
الحق أقول لكم أنه لو لم يمح الحق من كتاب موسى لما أعطى الله داود أبانا الكتاب الثاني .
ولو لم يفسد كتاب داود لم يعهد الله بإنجيله إلي ، لأن الرب إلهنا غير متغير ولقد نطق رسالة واحدة لكل البشر ، فمتى جاء رسول الله يجيء ليطهر كل ما أفسد الفجار من كتابي ﴾ . وأنا أقول : لو لم يفسدوا ما قاله تعالى عن نفسه وما قاله رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذات الله عز وجل وحقيقة وجوده العظيم ، لما أرسل المهدي وفتح عليه من خزائن العلم ومخفيات النبوءات ، ألا ترون كيف ينص عليه بتطهير كل ما أفسد الفجار من كتابه ؟
إنما تم ذلك بما أعلن في هذه الدعوة المباركة حتى رفع ذاك الإنجيل كاملا للناس كافة من أصله ، فتم بذلك تطهير كل ما أفسد الكفار من كتابه كما أخبر ، والكتاب الحق واحد فرد وما يزعمون هي كتب كثيرة نسبت له كذبا وزورا ، فرد عليا بفضل الله تعالى بذلك الرفع المبارك بكتاب واحد فرد وهو الحق المنزل على قلب يسوع المسيح عليه الصلاة والسلام ، لأن الحق واحد لا يتعدد كما قال هو . وأقول أيضا : الله تبارك وتعالى حكمُ العباد لديه في ذلك سواء كونهم في المنام أو اليقظة ، فمثل ما يمكن لعبد من عباده مشاهدته ومحادثته أثناء منامه ، فهو كذلك قادر على أن يري نفسه تعالى من يشاء من عباده وهم في يقظة أو نيام ، بل يري الكثير نفسه تعالى إن شاء وهم جموع وهو فرد ، على ما قاله الصحابي رضي الله تعالى عنه العقيلي الأعرابي وكان به عقل وكان يحب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يسأله ذاك الصحابي ، فقال : كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه ؟ ، قال : " أنبئك بمثل هذا في آلاء الله : الشمس والقمر آيةٌ منه صغيره ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ولا تضارون في رؤيتهما ، ولعمر إلهك لهو أقدرُ على أن يراكم وترونه من أن تروا نورهما ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما " ( من حديث العقيلي أبي رزين المطول لفظه على ما ساقه ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى في زوائده على المسند )
وذلك عين ما استدل به المسيح صلوات ربي وسلامه عليه لإثبات رؤية الباري عز وجل يوم القيامة ، لكن قبل ما أنقل نص كلامه في ذلك سأنقل كيف اعتقاده عليه الصلاة والسلام في جواز رؤية الله عز وجل ومشاهدته بالدنيا كما شاهده أبونا آدم صلوات ربي وسلامه عليه ([1]) وموسى الكليم صلى الله عليه وسلم ، فقال : ﴿ لو لم يدعني الناس إلها لكنت عاينت هنا الله كما يعاين في الجنة ﴾ ([2]) .
كما يعاين في الجنة ، يريد رؤية ومشاهدة لا تنافي ما قرر في عهد وميثاق الله تعالى المنزل على موسى بلوحي العهد ، إنما هي رؤية خاصة على ما قرر لكم في هذا الفصل ولا مزيد رؤية مُدرَكة للحواس البشرية لا غير مدركة بأي حال ، وهــو القائل صلوات ربي عليه : ﴿ سنعرف الله متى صرنا في الجنة كما يعرف هنا البحر من قطرة ماء مالح ﴾ اهـ .
واعتقد أنك أيها القارئ كلامي هنا قد عرفت بأكثر من قطرة ماء ، فحين يقرر النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام أنه تعالى محتجب عن الحواس البشرية ، فإنه يريد حقيقة وجود الله عز وجل التي لا يمكن تدرك لا بصرا ولا بصيرة ، وحين يقــــــول مثل النبي أيوب عليه الصلاة والسلام : ﴿ أعلم أن إلهي حي وأني سأقوم في اليوم الأخير بجسدي وسأرى بعيني الله مخلصي ﴾ . فإن هذا يكون معناه الرؤية الممكنة للحاسة البشرية ، مثل ما يراه بمنامه يراه في يقظته إذا شاء المولى عز وجل بالطريقة التي يقدرها ، ولا نقول هنا كما قال الصوفي التائه أبو سعيد الخراز لما سألوه : بم عرفت الله ؟ ، قال : بالجمع بين النقيضين اهـ .
ولا تناقض فيما بين اختلاف حقيقة وجود الله تعالى الإله الحق عن سائر ما عبد من دونه من آلهة الشرك ، فلا يكون معبود من دونه بالباطل إلا وهو مكشوف معين كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم : ﴿ إن العيون الجسدية لا تبصر إلا الكثيف والخارجي ، فلا تقدرون من ثم إلا على رؤية آلهتكم الخشبية والفضية والذهبية التي لا تقدر أن تفعل شيئا ، أما نحن فلنا عيون روحية هي خوف إلهنا ودينه ، ولذلك لا يمكن لنا رؤية إلهنا في كل مكان ﴾ .
نرى هنا أن النبي جعل من خصائص الإله الحق دون آلهة الباطل أنه غير منظـــور بحقيقة وجوده كما آلهة الباطل التي لا يمكن إلا أن تكون منظورة لمن يعبدها ولوما ذلك لبطل اختيارها آلهة معبودة لأن المعبــــــود بحق هو الذي يجيز عبادته الخلق من غير أن يروه ، وهذه خاصية له انفرد بها من دون غيره من آلهة الباطل في الخلق ، لهذا عباد الشرك يعظمون المشاهد وتلك الابهات الزائفة الزائلة ، أما الإله الحق فمن عدله أن يجازي من عبده بحق ولو لم يشاهده بالدنيا بان يشاهده بالآخرة بحسب ما يمكنه جسده البشري ، لأن الأصل بالمكافئة للبشر على ما عملوا من الحق والعدل أن يشمل ذلك تنعم أجسادهم ، وفي ذلك أقصى ما يمكنهم من التنعم بمشاهدة وجه الله تعالى في الجنة ، وعليه يجيب المسيح أحد تلاميذه بما يؤكد على تشبيه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لرؤية الله تعالى بالجنة كما ترى اليوم الشمس فيقول ردا على سؤالهم التالي : يا معلم أللجنة نور من الشمس كما لهذا العالم ؟ ، فيجيب صلوات ربي وسلامه عليه : ﴿ هكذا قال لي الله يا برنابا : إن العالم الذي تسكنون فيه أيها البشر الخطأة الشمس والقمــــــــــر والنجوم التي تزينه لفائدتكم وحبوركم لأني لأجل هذا خلقتها . أتحسبون إذا أن البيت الذي يسكن فيه المؤمنون بي لا يكون أفضل ، حقا إنكم تخطئون في هذا الحسبان ، لأني انا إلهكم هو شمس الجنة ، ورسولي هو القمر الذي يستمد مني كل شيء ،
والنجوم أنبيائي الذين قد بشروكم ، فكما أخذ المؤمنون بي كلمتي من أنبيائي هنا ينالون كذلك مسرة وحبورا بواسطتهم في جنة مسرتي ﴾.
لكن لما يعقب أحدهم ويطرق مسألة السعة والحجم ويقيس ويقارن ما بين ذات الله تعالى والجنة فلنرى بما يرد عليه حين قال التلميذ : لابد أن تكون الجنة أكبر من الله لأن الله يرى بداخلها ؟
فقال مجيبا عليه : صه لأنك تجدف على غير هدى اهـ . ومن فوره جبريل ينزل ليكون الرد من العلي العظيم على ما قاله التلميذ مكتوبا على مرآة براقة كالشمس : ﴿ لعمري أنا الأبدي وكما أن الجنة أكبر من السماوات برمتها والأرض وكما أن الأرض برمتها أكبر من حبة رمل هكذا أنا أكبر من الجنة بل أكثر كثيرا من ذلك عدد حبوب رمل البحر وقطرات الماء في البحر وعشب الأرض وأوراق الأشجار وجلود الحيوانات بل أكثر من ذلك كثيرا عدد حبوب الرمل التي تملأ السماوات والجنة بل أكثر ﴾ .
ثم قال عليه الصلاة والسلام : ﴿ إن نفسك التي هي أعظم من الأرض برمتها ترى بعين واحدة الشمس التي هي أكبر من الأرض بألوف من المرار . هكذا ترى الله خالقك بواسطة الجنة ﴾ .
هنا عاد التشبيه بالرؤية للباري عز وجل كما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم بالشمس ، وأفيد هنا ببيان معنى التشبيه لكلا النبيين عليهما الصلاة والسلام فأقول : قياس المسيح لحجم عين الرائي مع حجم عين الشمس التي هي أعظم من حجم الأرض بألوف المرات ، ومع هذا تدرك رؤية الشمس على تفاوت الحجم الهائل ، وهذا تشبيه تقريبي لكيفية تحقق مشاهدة الإنسان لربه بالجنة من خلال عينه الصغيرة الحجم ، ومع هذا يمكن لتلك الحاسة أن تدرك رؤية الله عز وجل بالجنة ومشاهدته رغم ذلك التفاوت الهائل والأكبر بما لا قياس مثل ما يقاس حجم الشمس والأرض والعين البشرية بالنسبة لرؤية الباري عز وجل ، ومع هذا كان ذلك وسيلة لتقع مشاهدته بالحاسة البشرية وإلا حقيقة وجوده أعظم من ذلك بكثير ولا قياس كما قلت ، وهذا معنى ما نزل به من كلام الملاك جبريل عليه الصلاة والسلام ، فالمسألة بحدود التقريب والممكن بالنسبة لاستيعاب الذهن البشري من حيث الإدراك ، وبالنسبة لعينه من حيث امكانها ادراك الرؤية والمشاهدة لله تبارك وتعالى ، وإلا حقيقة الأمر أكبر من ذلك بما لا قياس ، ولا حتى بمقدار النسبة ما بين قطرة ماء البحر بالنسبة لكل تلك البحار والمحيطات ، إن الله تعالى أكبر وأجل من ذلك بكثير كثير حتى لا قياس .
هذا بما يخص تشبيه المسيح عليه الصلاة والسلام .
أما فيما يخص التشبيه للرؤية بالشمس والقمر على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم فأتت لبيان زيادة معنى بذاك التشبيه لعل لم يفطن له كثير أحد من الخلق ، بسبب عبث أهل الحديث بأخباره من باب الاختصارات أو الإقصاءات من بعض المطولات المرويات عنه لنكارة لفظة ما ، هنا أو هناك بحسب مداركهم فيجفلون من ذلك كما قال ابن قتيبة ، فيعملون التحكم به من باب الاختصار وهم لصوص إنما سرقوا بعضا مما ورد مرويا عنه ليبعدوه عن أعين الخلق وإحاطتهم العلمية بما قاله .
فعلى سبيل المثال حديث أبي رزين العقيلي هو ذات الحديث في إثبات الضحك للرحمان عز وجل والرؤية له كما ترى الشمس والقمر وعن بدء الخلق ، أهملوه عن عمد لما ورد مثلا فيه قوله عما يكون بعد الصيحة وهلاك الكل حتى ما يبقى إلا العزيز العليم ، فقال : " فأصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض ، وخلت عليه البلاد " . فأكثرهم لا يطيقون رواية هذا حتى ما يرميهم خصومهم بالتشبيه ، لكن المسيح ما خشى من شيء لما روى ما رواه في قصة آدم كما هو مقرر تحت هذا العنوان : ( من أعجب وأعظم موافقات المصطفى لما ورد بإنجيل المسيح / المقال منشور بموقعنا ) . ولا المصطفى صلى الله عليه وسلم خشى من دراويش الفلسفة والهذارين من أهل الكلام الفارغ ولا دراويش السلفية العرجاء العوراء ، لقد قرروا الحق وقالوا به خبرا ولو لم تستوعبه عقول أولئك الجهال .
وزيادة المعنى من ذاك التشبيه على لسان المصطفى صلى الله عليه سلم على ما قاله المسيح ، رؤيته من قبل الكثرة وهو الفرد تبارك وتعالى ، وتشبيهه تحقق ذلك كما مشاهدة الشمس أراد بذلك المعنى والحقيقة فهو عز وجل سيرى من الجنة كما يرى الناس الشمس اليوم والقمر تماما معنى وحقيقة وهذا عين ما أراده عليه الصلاة والسلام ، فحين يتجلى لعباده ويطلع عليهم بنوره عز وجل ليكون بمثابة شمس الجنة فهم سيعاينونه كما تعاين الشمس اليوم من مشرقها للخلق ، والشمس وهي تسبح في فلكها ستمر عليهم بالتدرج حتى يراها كل الخلق بمسيرها ذاك ، ولله عز وجل المثل الأعلى فحين يشرق عليهم بنوره وهم بالجنة ويستدير فلك الجنات كما يستدير فلك السماوات السبع اليوم حتى تشرق الشمس على الجميع مرورا وهي تسير في مسارها فيراها كل الخلق لا يضام أحد برؤيتها ، وبالمثل مشاهدة المولى عز وجل هكذا لن يضام أحد برؤيته لكل أهل الجنة ، من حيث استدارت فلك الجنان يمرون على مقامه العظيم وسموه الأعلى من كل شيء ، ويتمتعون بإشراقه عز وجل ، كلهم لا يضام أحد منهم دون أحد في ذلك ، وهذا هو معنى التشبيه تماما ليشمل المعنى وصورة الحقيقة شبه مطابقة ما بين المثل والممثل به .
أما ما عناه الأنبياء والرب تعالى بإثبات النفي فذاك أمر آخر مختلف بالكلية عما نحن بتقريره هنا ، فنحن بتقرير فرق معاينة مثاله بالدنيا أو بالجنة عما توهم عليه الجهال ومن ضل عقله عن ادراك تلك الحقائق ، ومعاينة الملائكة له ومجادلته معه يوم كان آدم كومة طين ، ويوم آدم قائم على رجليه والملائكة من حوله قد أمروا بالسجود له ومعهم ابليس والشياطين الكفرة من بعد ، فذلك جنس المشاهدات التي يعنيه بحثنا هنا ، والنفي آمر آخر وهو نفي مطلق كما قرر الأنبياء ومن لم يعي الفرق في ذلك فقد ضل وتاه عن سواء السبيل ، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. ( رواه أحمد ومسلم وابن ماجة رحمهم الله تعالى )
فهذا النفي المطلق لمعاينة ذاته المقدسة العلية المحتجبة هو مما اتفق عليه الأنبياء ومن خالفهم ضل عن الحق ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلا وَحَيًّا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب .. ﴾ ، وما نحن فيه هنا من اثبات معاينته ليس هو من ذاك ولا يدخل فيه ، ومن شكك في صحة ثبوت معاينة موسى وبني اسرائيل لمثال الله تعالى حسب ما ذكر هناك أو شكك بما قاله المسيح عليه الصلاة والسلام قبل عن نفسه وعن آدم ، فليعلم أن ثبوت مشاهدة آدم لمثال ربنا تبارك وتعالى منصوص عليه كما في الانجيل الصحيح كذلك على لسان المصطفى صلى الله عليهما وسلم ، وقد أشارت له تلك الآيات وغيرها من القرآن كلام ربنا ، ما يثبت به كذب من ادعى المنع من ذلك بالدنيا ، وسأقرر لاحقا إن شاء الله تعالى مناسبة تقرير الكلام حول معاينته وعلاقة ذلك بالدنيا برجوع الأشهاد .
وهناك من ذهب لتحقق رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى ولو أن عائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت ذلك بشدة واستدلت للمنع بعموم خبره تعالى : ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ ، وكذبت من قال بذلك وهو المروي عن ابن عباس على اختلاف عليه فتارة يروى عنه بالإثبات ، وتارة بالنفي لقوله أنها رؤية قلب لا عين .
وأشد تناقضه رضي الله تعالى عنه بما روي عنه قوله في تلك الآية : ﴿ لا تُدْرِكهُ الأَبْصَار ﴾ فِي الدُّنْيَا . حكاه القرطبي في تفسيره . هذا مع رواية تجويزه ذلك بمعراج النبي صلى الله عليه وسلم ما يعد تناقض رفضته عائشة وبشدة ، ويزاد عليه أن الحق في قصة العروج بالنبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كان بروحه مناما ولم يكن يقظة بجسده وروحه .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : اخْتَلَفَ السَّلَف فِي رُؤْيَة نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلام رَبّه , فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ مَسْرُوق قَالَ : كُنْت مُتَّكِئًا عِنْد عَائِشَة , فَقَالَتْ : يَا أَبَا عَائِشَة , ثَلاث مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة - في لفظ فقد كذب - قُلْت : مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبّه فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّه الْفِرْيَة .
قَالَ : وَكُنْت مُتَّكِئًا فَجَلَسْت فَقُلْت : يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , أَنْظِرِينِي وَلا تُعْجِلِينِي , أَلَمْ يَقُلْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِين ﴾ . ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَة أُخْرَى ﴾ ؟ فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّل هَذِهِ الأُمَّة مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ﴿ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيل لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْر هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْته مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاء سَادًّا عِظَم خَلْقه مَا بَيْن السَّمَاء وَالأَرْض ﴾ .
فَقَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : ﴿ لا تُدْرِكهُ الأَبْصَار وَهُوَ يُدْرِك الأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير ﴾ ؟
أَوَلَمْ تَسْمَع أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلا وَحَيًّا أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب .. ﴾ ؟
وَإِلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِنْ عَدَم الرُّؤْيَة , وَأَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيل : اِبْن مَسْعُود , وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُم , وَأَنَّهُ رَأَى جِبْرِيل , وَاخْتَلَفَ عَنْهُمَا .
وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاع رُؤْيَته جَمَاعَة مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلِّمِينَ . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ ; هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنْهُ اهـ .
وأخرج الطبري بإسناده عن مسروق قال : قُلْت لِعَائِشَة : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ : هَلْ رَأَى مُحَمَّد رَبَّهُ ؟ فَقَالَتْ : سُبْحَان اللَّه , لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْت ثُمَّ قَرَأَتْ : ﴿ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ . توسع في تخريج ألفاظه صاحب السراج محمد بن إسحاق الثقفي ومنها الذي ساق لفظه الطبري.
ومما يصدق ما قالته أم المؤمنين ما روي عن عبدالله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم لسألته ، قال عما تسأله ؟ قلت : أسأله هل رأى ربه ؟ فقال : قد سألته فقال : " نور أنى أراه " .
ويجدر هنا تعليقا على ما روى أبو ذر رضي الله تعالى عنه : أنه لما كان الحق أنه عرج به للسماء بروحه مناما ومع هذا نفى رؤيته لله عز وجل ، دل ذلك دلالة قوية على أن نفيه لما كان السؤال متضمن معنى رؤية ذاته المقدسة من غير حجاب ، وإلا قد ثبت بالدليل الصحيح أنه أخبر عن رؤيته لله تعالى بالمنام فقال : " رأيت ربي في أحسن صورة " .
وعليه لو كان له جواز رؤية ذاته المقدسة جل وعلا بالمعراج لما قال " نور أنى أراه " وقد ثبت له رؤيته عليه الصلاة والسلام بغض النظر كون ذلك المعراج بروحه مناما فقط أو بجسده يقظه بما أنه ثبت جواز رؤيته بالمثال والصورة فما الذي يحول بينه وبين رؤية ربه تعالى بالمعراج ؟!
ولكشف الله تعالى لرسوله مثاله مثل ما رآه بتلك الرؤيا ، ومثل ما رآه آدم عليه الصلاة والسلام يقظة وموسى الكليم صلوات ربي وسلامه عليه فيما ترجح لدي ، وهذا الوجه يضاف لسائر ما استدل به هنا في تقرير استحالة رؤية ذاته المقدسة المحجوبة عن العقل البشري لأي كان من خلقه .
أما ورود هذا الوجه على ابن عباس فالرد عليه بما قالته أم المؤمنين ( كذب ) بغض النظر عن اعتقاده أن ذلك حصل بعيني رأسه عليه الصلاة والسلام يقظة حسب احدى الروايتين عنه ، فهذا زيادة بالكذب منه .
وعليه أقول بأن : اختيار عائشة رضي الله تعالى عنها يكشف عن نوع ذاك الخلاف والتناقض في هذه الأمة في اثبات صفات الباري عز وجل وما يجوز في ذلك وما لا يجوز اثباته ، ومن قال بالمنع هنا من العلماء بخصوص رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم لربه اعتبر لرواية أبي ذر ونفي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : " نور أنى أراه " .
وهي الرواية التي اعتمد عليها ابن حنبل في احدى الروايتين عنه .
ومن اعتقد بالجواز ذلك لعدم تمييزه الفرق في ذلك ولاختلاط الأمر عليه دنيا وآخرة ولعدم وعيهم الفرق ما بين ادلة جواز رؤيته سبحانه وعلى ماذا يحمل ذلك ، وما بين النصوص العامة بالمنع من ذلك على ما استدلت به عائشة رضي الله تعالى عنها ، ولهذا نجد كل ذلك الاختلاف والاضطراب حتى خرج عن ابن حنبل رحمه الله تعالى في ذلك بروايتين رواية تجيز ذلك ورواية تمنع .
حكى القرطبي عنه : قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَآهُ بِقَلْبِهِ , وَجَبُنَ عَنْ الْقَوْل بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالأَبْصَارِ اهـ .
وذكر عنه أيضا الرواية الأخرى فقال : وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُ قَالَ : أَنَا أَقُول بِحَدِيثِ اِبْن عَبَّاس : بِعَيْنِهِ رَآهُ رَآهُ حَتَّى اِنْقَطَعَ نَفَسه , يَعْنِي نَفَس أَحْمَد اهـ .
قلت : وفي هذا برهان على ما قرر هنا في زيف قاعدتهم بتمرير تلك النصوص من غير دراية ولا فهم لحقيقة الأمر وضبط اعتقادهم على وفق الحق بالجمع الصحيح ما بين دلالة كل النصوص في ذلك ، ما دل على الجواز وما منع ونزه الباري عنه نفسه عز وجل .
وبالمثال الثالث هنا : اقرر عن أحد كبارهم كيف أنهم حتى في إثبات رؤية الله تعالى بالآخرة باعتقادهم أثبتوه على وجه لا يعقل معناه ، ويستنكرون على من يستفهم عنه ويطلب ادراك كنه تلك المشاهدة المخبر عنها بكتاب ربنا تعالى وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المصطفى ، فيقول قوام السنة ثانية بهذا الخصوص :
روى يزيد بن هارون في مجلسه حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم عن جرير في الرؤية وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر" . فقال رجل في مجلسه : يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث ؟
فغضب وحرد ، وقال : ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فُعل به !!
ويلك من يدري كيف هذا ؟ ، ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه ، واستخف بدينه ، إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه ، فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم وإن لم تفعلوا هلكتم اهـ .
أقول : ما سفيه إلا عقلك وما مارى بذلك إلا رأسك حين أنزلت مسألة ذاك الرجل بمنزلة ما سأل عنه صبيغ عمر رضي الله تعالى عنه ، فجعلت المعلوم شرعا بمنزلة المجهول الذي لا يضر عدم العلم به ، وما يليق بالله تعالى وأخبر به عن نفسه ، بما خلق مما غاب عن علم خلقه .
وإن كنت تجهل لهذا الحد في إثبات ما يليق لله تعالى مما أخبر به عن نفسه ، فمن ذاك الأحمق الذي صدرك لتفتي وانت لهذا الحد من الجهل وعدم اليقين بما بلغك الخبر فيه ؟
نعم : إنهم يثبتون حق التصديق بالرؤية للباري عز وجل في الآخرة لكن من غير علم ولا دراية ولا معقولية يدركها المسلم بذهنه تشرح له ويبين معناها ، وليس هذا منهم مختصا بحكم رؤية الباري عز وجل بل يتعدى لغيره من الصفات مثل استواء الله عز وجل على عرشه فهم لا يعقلون له معنى يدركونه بتصورهم العقلي لأنهم لا يرون في ذلك امكانية للعلم بحقيقته فيؤمنون بزعمهم به سماعا فقط من غير ادراك لمعنى تأويله وكيف تكون حقيقته ، مع أنه عز وجل يسر ذلك لعلم كل مكلف وإدراكه ولم يقدره غير ممكن لحواسهم ادراكه بأي حال ، إلا أن هؤلاء وخصومهم بما أكثروا من الخوض والجهل على ذلك حالوا بين يسر ذلك على المكلفين .
قال أبو الحسن الكرجي :
عقائدهم أن الإله بذاتـــــــــــــــه **** على عرشه مع علمه بالغوائـــــب
وأن استواء الرب يعقل كونــــــه **** ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب
ويقول ابن أبي عاصم النبيل صاحب كتاب " السنة " المشهور : يجب التسليم لها على ظاهرها - يعني النصوص في الصفات التي أورد بكتابه - وترك تكلف الكلام في كيفيتها . وذكر في ذلك النزول إلى السماء الدنيا والاستواء على العرش اهـ . ( ابن عبدالهادي ص69- كتاب الاستواء على العرش )
إيمانهم في ذلك ناقص نقصا شديدا ، والغريب أنهم من وجه آخر يغالون في إثبات الصفات فيشبهون لحد الضحك من جهلهم وغبائهم وشدة تخليطهم وفضائحهم في ذلك . وانتظروا لبيان جملة من ذلك بما سأورده في كتابي في الصفات للرد على أولئك * .
ويقول الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة في المتأخرين منهم : والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية اهـ .
وهذا كسابقه دعوى منطلقها الجهل بحقيقة ذلك التجلي وخلط لعدم التمييز فيما أخبر تعالى ورسوله في صفات المولى عز وجل ، وليس الأمر كما هو ظاهر مختصا بصفة دون صفة فلا الرؤية ولا الاستواء على العرش مما يمكن ادراك معناه والعلم بحقيقته ، وذلك منهم نوع تعطيل ونفي للصفات من غير شعور منهم في ذلك .
ومما قاله أبو بكر الاسماعيلي : مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة أنه خلق آدم بيده ويداه مبسوطتان بلا اعتقاد كيف ، واستوى على العرش بلا كيف اهــ .
خلط والتباس كبير وجهل مستفحل بعقولهم لا يميزون بين صفة الذات بالفعل وبين صفة المعنى والمثال ، لهذا اعتقدوا على قاعدتهم أن لكل قلب من قلوب بني آدم اصبعين للرحمان عز وجل يقلبه كيف يشاء ، أو قولوا مثل تلك الشناعة باسم العقيدة السلفية اعتقادهم صفة ذات لله عز وجل وبيده الميزان يرفع ويخفض ، وما أدركوا وجه المحذور من إثبات ذلك صفة ذات أن يلزم بحكم الكيف اللازم لحقيقة وجود كفتي الميزان وهنا الإثبات بحقيقة وجود مخلوق ولو تعلقت به صفة ذات لله عز وجل فإن كانت صفة الذات لله تعالى تثبت بعقولهم من غير كيف ، فصفة كفتي الميزان المخلوقة لا يصح يقال في إثباتها من غير كيف ولا معقول ، وهذا يلزم منه المحذور لو أدركه الغبي لفر من التزام اثبات ذلك صفة ذات لله عز وجل لا مثال ، وهو أن يبقى ربنا تعالى سبحانه عما يجهلون خافضا رافعا لكفتي الميزان أبدا ، والحق حمل الكلام هنا على وجه المثال والمعنى بظاهر الكلام أن المراد تقرير قيامه بالحق والعدل في خلقه عز وجل ، لا أن هناك كفتي ميزان يرفعهما ويخفضهما أبدا على وجه الحركة ، والغريب أنهم مختلفون فيما بينهم وباضطراب شديد على الاستواء والنزول كل ليلة هل ذلك بحركة او بغير حركة وحد ، ولو جلبوا ذلك لإثباتهم بالصفات لرفع الميزان وخفضه لكانت تلك مصيبة كبرى عليهم .
أو انظروا كذلك للاعتقاد الغبي الذي حمله أحدهم حرفيا على صفات الباري عز وجل وهو نظير سابقه ، أن يد الله فوق رأس كل مؤذن على صفة الذات هكذا يصرح ، اختلط عليهم القول لصفات الذات للباري ، بالقول من باب ضرب الأمثلة بالكلام ، ولو نزل على هؤلاء الإنجيل المملوء بضرب الأمثلة لشفتم من هؤلاء الدراويش العجب العجاب .
وهم كذلك لا يميزون معنى خلق آدم بيد الله عز وجل وخلق الأنعام ، فكل ذلك عندهم سواء بالمعنى طبعا الذي لا يعقلونه ولا يفهمون حقيقته ، قال عز وجل : ﴿ مما عملت أيدينا أنعاما ﴾ ، فهم لا يميزون بين هذا وذاك ، ومن جهلهم التزموا ذلك على وجه واحد لهذا سخر منهم مثل الخطابي في اعتقادهم تحريك القلوب وتقليبها بأًصابع الله عز وجل لأنهم حملوا ذلك على صفة للذات ويحسبون العقلاء سيصيخون السمع لما يقولونه بحسب قاعدتهم السخيفة ( أمروها كما وردت من غير كيف ولا معنى ) ، وما علموا من شدة الجهل أن الكيف هنا أين ما صرفته على صفة الذات لا يعتقده إلا مخبول لكنه صادق في دعواه من غير كيف ، إلا أن زعمهم ذلك معقولا كذب من هذا الجانب إذ لا كيف معقول أبدا ليصدق في ذلك.
ويقول صاحب الحجة في بيان المحجة الأصبهاني وهو يعدد الأحاديث في الصفات على معتقدهم وذكر الاستواء وخلق آدم بيديه سبحانه والنزول ، ثم ذكر : وكقوله : " ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمان " . فهذا وأمثاله مما صح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مذهبنا فيه ومذهب السلف إثباته وإجراؤه على الظاهر ونفي الكيفية والتشبيه عنه .. والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ، وإثبات الله تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فإذا قلنا يد وسمع وبصر ونحوها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ولم يقل معنى اليد القوة ولا معنى السمع والبصر العلم والإدراك ، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار ، ونقول إنما وجب إثباتها لأن الشرع ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى : ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ، كذلك قال علماء السلف في أخبار الصفات : أمروها كما جاءت .
فإن قيل : فكيف يصح الإيمان بما لا يحيط علمنا بحقيقته ؟ أو كيف يتعاطى وصف شيء لا ادراك له في عقولنا ؟
فالجواب : أن إيماننا صحيح بحق ما كلفنا منها ، وعلمنا محيط بالأمر الذي ألزمناه فيها وإن لم نعرف لما تحتها حقيقة كافية ، كما قد أمرنا أن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والجنة ونعيمها والنار وأليم عذابها ، ومعلوم أنا لا نحيط علما بكل شيء منها على التفصيل ، وإنما كلفنا الإيمان بها جملة واحدة ، ألا ترى أنا لا نعرف أسماء عدة من الأنبياء وكثير من الملائكة ، ولا يمكننا ان نحصي عددهم ، ولا أن نحيط بصفاتهم ، ولا نعلم خواص معانيهم ، ثم لم يكن ذلك قادحا في إيماننا بما أمرنا أن نؤمن به من أمرهم اهـ .
وهذا مما يؤكد على خلطهم في ذلك وعدم تمييزهم ما بين صفات الذات وضرب الأمثلة بالقول ، فهم يأخذون أكثر تلك المعاني حرفيا على صفات الذات لله عز وجل ، ثم يفترضون العذر في ذلك بعدم وجوب العلم بالكيفية أو استحالة ذلك ، ولا يفطنون لضعف إثباتهم ذلك صفة من الأساس حتى يفسرونه على ذلك النحو ، ويقيسونه على سائر ما وردنا خبرا مما سيكون من الموجودات أو كان من الموجودات ، فعالم الغيب وعالم المشاهدة لكل ذلك حدوده وقوانينه لمن حظر أو غاب ، ولا يجب العلم بحقيقة ذلك الصورية لأنه من المستحيل على كل من غاب عن أي مشهد ادراك حقيقة صورته .
أما في باب اثبات صفات الباري عز وجل ونفي ذلك ، فاعتقاد ما يصح من ذلك بالإثبات والنفي هذا أمر آخر وبابه غير ذاك الباب ولا يصلح قياس هذا على ذاك إلا من باب الهذيان لا أكثر .
والذي جرهم لمثل هذا الخلط اعتقادهم إثبات الصفات للذات على وجه الحق تارة وعلى وجه الباطل تارات أخرى ، ثم حمل ذلك كله على النفي المطلق : ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ، ثم برهنوا مثلا لإثبات صحة هذا الجمع بدعواهم أن له تعالى أصابع يقلب بها قلوب العباد مع حملهم ذلك على صفات الذات وحقيقتها الغائبة ، لا أنه من ضرب الأمثلة بالكلام لتأكيد قدرته المطلقة على قلوب العباد ، وهذا الهذيان بعينه ولا عنوان له اكبر من هذا المعتقد السلفي البائس .
ونظير ذلك حملهم أن له عينان سبحانه تجري فيهما على صفة الذات بعض المخلوقات .
ولما كان هذا غير مقبول لأنه غير معقول ولا مفهوم على الإطلاق وفق النصوص الشرعية فذلك ليس لائقا لحقيقة وجود الله تعالى المقدس ، وهو باطل من التأويل يدل على ذلك أنه نتاج خلطهم ما بين الأمثلة المجردة بضرب الكلام لتدل على المعنى لا على أي صفة ذات لله عز وجل وأخذوا يستدلون بذلك لإثبات الصفة للباري عز وجل ، فقلبوا ذلك ليكون من صفات الذات لله عز وجل عند الجهلة الغر من اتباعهم ، ولجأوا لتثبيت مثل هذا الجهل في الله تعالى وصفاته بتقريرهم الولوج لذلك من باب عدم علم الكيفية ولو أن لا كيفية إلا معنوية لذلك ولا يحمله على صفة ذات لله تعالى إلا شبه مخبول في عقله ، ولهذا افترضوا في ذلك افتراض أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تبينه لخيط الفجر من خيط سواد الليل ، فوضع جهلا منه لإدراك معنى الكلام فانقلب عليه الاستدلال ليقيس على عقاله وبياض وسادته ، والجهل وضلال العقل مستمر مستديم بالبشر يتوارثونه ، فقصة هذا الصحابي تكررت مع يمني حين سألته عن كيفية تبينه للظهور الشرعي للفجر الموجب اقامة الصلاة فأجاب : بتبينه لأثاث بيته وأوانيه !!
وقد كان يعاني المسيح عليه الصلاة والسلام من ذلك من بعض تلاميذه ممن عهد عليهم بعض الجهل في الكلام لقصور في فهمهم ، وهو في أئمة السلف بخصوص الإثبات والنفي في باب الصفات للباري عز وجل شائع بالعموم ، لا يميزون في غالب أقوالهم ما بين صفاته الفعلية المحكي عنها بأسماء صفات للذات ، وما بين الصفات الذاتية ، فكل ذلك عندهم من باب واحد .
قال أحد تلاميذه عليه الصلاة والسلام واسمه " متى " : يا معلم إنك اعترفت أمام اليهودية كلها بأن ليس لله من شبه كالبشر وقلت الآن أن الإنسان ينال من يد الله ، فإذا كان لله يدان فله إذا شبهُ بالبشر .
فأجاب عليه الصلاة والسلام على هذا الكلام بالقول : إنك لفي ضلال يا متى ولقد ضل كثيرون هكذا - وفي عداد أولئك أئمة السلف في هذه الأمة ، أقول ذلك لا أخشى في الله تعالى وقول الحق والصدق لومة لائم - إذ لم يفقهوا معنى الكلام ، لأنه لا يجب على الإنسان أن يلاحظ ظاهر الكلام بل معناه ، إذ الكلام البشري بمثابة ترجمان بيننا وبين الله ، ألا تعلم أنه لما أراد الله أن يكلم أباءنا على جبل سينا صرخ أباؤنا : كلمنا أنت يا موسى ولا يكلمنا الله لئلا نموت .
وماذا قال الله على لسان اشعيا النبي : ﴿ أليس كما بعدت السماوات عن الأرض هكذا بعدت طرق الله عن طرق الناس وأفكار الله عن أفكار الناس ﴾ .
إن الله لا يدركه قياس إلى حد أني أرتجف من وصفه ... إن الكون أمام الله لصغير كحبة رمل والله أعظم من ذلك بمقدار ما يلزم من حبوب الرمل لملء كل السماوات والجنة بل أكثر . فانظروا الآن إذا كان هناك نسبة بين الله والإنسان الذي ليس سوى كتلة صغيرة من طين واقفة على الأرض ، فانتبهوا إذا لتأخذوا المعنى لا مجرد الكلام إذا أردتم أن تنالوا الحياة الأبدية .
فأجاب التلاميذ : إن الله وحده يقدر أن يعرف نفسه وأنه حقا لكما قال اشعيا النبي : " هو محتجب عن الحواس البشرية " اهـ .
وبوقت آخر تطرقوا لهذا المعنى وأحبوا معرفة الله تعالى أكثر رغم كون حقيقته محتجبة عن العقل والحواس البشرية ، فسأله أحدهم بالقول : إننا راغبون في خدمة الله ولكننا نرغب أيضا نعرف الله لأن اشعيا النبي قال : " حقا إنك لإله محتجب " . وقال الله لموسى عبده : " أنا الذي هو أنا " .
فأجاب صلوات ربي وسلامه عليه : إن الله صلاح بدونه لا صلاح ، إن الله موجود بدونه لا وجود ، إن الله حياة بدونها لا أحياء ، هو عظيم حتى انه يملأ الجميع ، وهو في كل مكان هو وحده لا ند له .
لا بداية ولا نهاية له ولكنه جعل لكل شيء بداية وسيجعل لكل شيء نهاية .
لا أب له ولا أم . لا أبناء ولا إخوة ولا عشراء له . ولما كان ليس لله جسم فهو لا يأكل ولا ينام ولا يموت ولا يمشي ولا يتحرك ولكنه يدوم إلى الأبد بدون شبيه بشري ، لأنه غير ذي جسد وغير مركب وغير مادي وأبسط البسائط ، وهو جواد لا يحب إلا الجود ، وهو مقسط حتى إذا هو قاص أو صفح فلا مرد له .
وبالاختصار أقول لك يا " فيلبس " أنه لا يمكنك أن تراه وتعرفه على الأرض تمام المعرفة ، ولكنك ستراه في مملكته إلى الأبد حيث يكون قوام سعادتنا ومجدنا اهـ .
يريد رؤية خاصة ستتحقق في الآخرة على وجه لا يناقض ما نفاه من قبل ، بل الممكنة على ما وضحت لبني البشر حتى يتم لهم الجزاء العادل من الكريم المنان اتماما لرضاه عنهم ، وإلا لن يتغير الله تعالى حتى يمكنهم رؤيته بعد أن لم يكن يمكنهم ذلك ، ولن تتغير حقيقة وجوده فهو هو والخلق في الدنيا كما هم بالآخرة بعد الحشر ، فالحكم في ذلك بحقهم سواء وحقيقة وجود الله تعالى لن تتغير فهي دائمة كما كانت ، لكن هو على ما وُضِحَ بالتفصيل هنا مشاهدة خاصة كمشاهدتهم للشمس أو القمر اليوم بنوره الكامل وبالصفات الممكن لهم مشاهدته من خلالها تبارك وتعالى الحكيم العليم الفعال لما يشاء .
ألا ترونه تارة يجيز الرؤية للباري على نفسه كما مر معنا قبل لو لم يدعه الناس ابن إله ، وتارة ينفيها مطلقا عليه الصلاة والسلام ، وهو لم يجعل للاختلاف في ذلك ما بين الدنيا والآخرة أي شرط ، سوى أنه كان يعني الفرق ما بين رؤية ذاته بوجوده الحقيقي ورؤيته من وراء حجاب ، وإلا لم يكن قال الحق وحاشاه صلوات ربي وسلامه عليه بنفيه رؤية الباري تارة مطلقا بالدنيا وتارة يجيزها لنفسه لو لم يدعوه الناس بابن إله صلوات ربي وسلامه عليه الطاهر ابن الطاهرة الزكية .
ثم أقول : ورغم عظم ما قاله المسيح عليه الصلاة والسلام هنا نجد ذلك التلميذ ضعيف الإدراك يعود ليقول : ماذا تقول يا سيد حقا لقد كتب في أشعيا أن الله أبونا فكيف لا يكون له بنون ؟!
فأجاب مؤكدا عليه الصلاة والسلام على عدم أخذ الأمثال عن الأنبياء والوحي بالحرف بل بالمعنى من وراء الكلام : إنه في الأنبياء مكتوب أمثال كثيرة لا يجب أن تأخذها بالحرف بل بالمعنى ، لأن كل الأنبياء.. تكلموا بالمعميات بظلام ولكن سيأتي بعد بهاء كل الأنبياء الأطهار فيشرق نورا على ظلمات سائر ما قال الأنبياء لأنه رسول الله اهـ .
ومما بوب بكتابه صاحب الحجة في بيان المحجة : ( نفي مشابهة صفات الله لصفات خلقه ) وقال هناك : قال أئمة أصحاب الحديث في أخبار الصفات : أمرّوها كما جاءت .
وقال أحمد في رواية حنبل : يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول . ونص على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل .
وذكر الدارقطني في أخبار الصفات عن جملة من أئمة الحديث على ما نقل عنه صاحب الحجة : يحدثون هذه الأحاديث ولا يفسرون شيئا .
" أن الله يضع السماوات على أصبع " .
" إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن " .
" إن الله يعجب ويضحك " .
" قالوا : هي كما جاءت نقرّ بها ونحدث بلا كيف ".
وذكر عن أبي بكر الخلال في كتابه السنة بإسناده عن الأوزاعي قال : سئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث فقالا : أمرّوها كما جاءت .
وذكر عن الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي مالكا وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا : أمروها بلا كيف .
ونقل عن أبي عبيد : هذه الأحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا شك فيه ، ولكن إذا قيل : كيف وضع قدمه فيها ؟ وكيف ضحك ؟ .
قلنا : لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسرها .
قال أهل العلم من أهل السنة : هذه الأحاديث مما لا يدرك حقيقة علمه بالفكر والرويّة اهـ .
قلت : في هذا منتهى الخلط والتكريس للأكاذيب وهو يصدر عن إمام مشهور بالذب عن السنة مصنف عَلَم ، فما بالكم بمن دونه من مقلدتهم وجهلهم ، ووالله لم يقل الحق والصدق : بل هي تدرك لمن هداه الله تعالى بالعلم والروية .
فقوله بـ ( أن الله يضع السماوات على أصبع ) . أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا بالقطع باطل وكذب ، فهي من جهالات ابن مسعود روج لها الذين لا يعقلون حقيقة وجود الرحمان عز وجل ولا يجلون صفاته العظيمة من مثل صاحب الحجة هذا ، حسب المصطفى صلى الله عليه وسلم أقر جهالات ذلك الحبر اليهودي فيما يهذي ، ثم صار هذيانه دينا وعقيدة تنسب لصفات الباري عز وجل وعظيم ذاته المقدسة عند هذا وأمثاله من الجهلة على حقيقة وجود الباري عز وجل .
والأخرى دعواه : ( أن الله يعجب ويضحك ) . هكذا بالجمع وهذا أيضا من الكذب والجهل ولهم به خلط عجيب ليس هذا مكان بيانه ، فالعجب ليس صفة يصح نسبتها لله عز وجل أما الضحك فنعم ثبتت بنقله النصوص عن الله عز وجل مع اثباتهم لذلك صفة ذات يجهلون معناها وحقيقتها ومع جهلهم وضلالهم في ذلك زادوا بإثباتهم تخاريف وهذيان حتى نسب لمثل أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى سيأتي مني التحقيق فيه واثبات نقضـــــــــه
عليهم جميعا إن شاء الله تعالى بكتاب لي في عقيدة الأسماء والصفات ([3]).
وعجيب خلط صاحب الحجة بين اللفظين هنا مع أن كل الأحاديث على خلط من بعض رواتهم لا تأتي بهذا الجمع بل على الإفراد ، وكل من نسب صفة التعجب لله عز وجل أخطأ إنما يعجب من لا يعلم أما من يعلم الغيب والشهادة فلا يصح وصفه بذلك ، ولم يصح حديث واحد في إثبات نسبة ذلك للباري عز وجل ومن اعتمد على قراءة قوله تعالى : ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ بالضم ، ضل .
قال ابن أبي حاتم بإسناده : أن شريحا كان يقرأها بالنصب ويقول : إن الله لا يعجبُ من الشيء إنما يعجبُ من لا يعلمُ ، فقال الأعمش : ذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال :إن شريحا كان معجبا برأيه وعبدالله كان أعلم منه كان يقرأها ( بل عجبتُ ) اهـ .
ابن مسعود يأخذ في صفات الله تعالى عن يهودي مخبول ثم يفتري بنسبة اقرار ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على أن ضحك وثابت عنه ضحكه من الغباء ، واكتفى مع ذلك بتلاوة قول الكريم بنفي صحة تقديرهم لله عز وجل وعظمته .
راجع العنوان التالي : أمة غبية حتى في العلم بذات الله تعالى وما يليق بجلاله ... ([4])
وصدر لي كتابا مفرد في تقرير بطلان اعتقاد من اضاف التعجب لله عز وجل صفة ([5]) .
ومن يضل في هذا أعنى دعوى حمل الرب تعالى الشجرعلى اصبع والحجر على اصبع ، ليس بغريب عليه أن يضل بنسبة التعجب لله تعالــى
ويحركه الحرف لما يعجب منه ، وهذا هو الصحيح أن يعجب منه هو لا ان الله تعالى يتعجب من ضلال الضالين ، فهو عالم بهم وبأحوالهم قبل أن يخلقوا فكيف يعجب منهم ؟!
والحق أن المتعجب هنا المهدي حفيد النبي صلى الله عليهما وسلم مما يؤتيه الله تعالى من فتوح العلم ، ثم من يعاصره يسخر مما آتاه الله تعالى من علم ، هذا هو الحق والضمير بذلك الحرف لا يعود للنبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن ضلال ابن مسعود وغيره بإرجاع ذلك للعليم الحكيم .
وهناك جملة من أخبار الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم بينوا فيها وجه ذلك ويكفي شهادة الله عز وجل في كتابه الزبور على ذلك ما يغني عن سواه : ﴿ اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ ، طَرِيقَ وَصَايَاكَ فَهِّمْنِي ، فَأُنَاجِيَ بِعَجَائِبِكَ . هذِهِ هِيَ تَعْزِيَتِي فِي مَذَلَّتِي ، لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي ، الْمُتَكَبِّرُونَ اسْتَهْزَأُوا بِي إِلَى الْغَايَةِ . عَجِيبَةٌ هِيَ شَهَادَاتُكَ ، لِذلِكَ حَفِظَتْهَا نَفْسِي ، فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ ، يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ ، وَرِثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى الدَّهْرِ ، لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي ، مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي ، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ ، عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا ، أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ ؟
وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي ، لأَنَّهَا إِلَى الدَّهْرِ هِيَ لِي ، أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا ، عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذلِكَ يَقِينًا . مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللهُ عِنْدِي مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا ، إِنْ أُحْصِهَا فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ ﴾ .
وعلى لسان أيوب عليه الصلاة والسلام يقول : ﴿ لأَنَّكَ مَنَعْتَ قَلْبَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ لأَجْلِ ذلِكَ لاَ تَرْفَعُهُمُ ... يَتَعَجَّبُ الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ هذَا ﴾ .
أما بخصوص قوله : ( إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ) فقد سبق الكلام في ذلك ما يغني عن تكرير القول فيه .
وهكذا هم لا زالوا يدسون تحت دعوى أمروها كما رويت كل ذلك الجهل وكل تلك الأكاذيب .
وعليه عرفنا مما قررت قبل عن المسيح وغيره عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل مما يمكن معاينته مثالا بالدنيا وفي الجنة بالصورة التي يشاء عز وجل ، أما اعتقاد امكان رؤية ذاته المحجوبة فهو كذب وضلال مبين من كل من يزعم جواز ذلك سلفا كانوا أو خلفا .
وسبب تقريري هذا حول هذا المعتقد ما ورد في الزبور من جواز معاينة مثال الله عز وجل بالدنيا للمهدي ، كما حصل مع موسى ومن انتخب من رؤوس الأسباط ، وما ثبت في الإنجيل من معاينة آدم عليه الصلاة والسلام الله عز وجل وهو في الدنيا أول ما خلق وقد روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يشهد لذلك كما سيمر معنا ذكره .
وقد وردت نبوءة عن ارميا عليه الصلاة والسلام تفيد تحقق ذلك للمهدي مثل ما تحقق ذلك لآدم وموسى عليهما الصلاة والسلام في قوله : ﴿ وَيَكُونُ قَائِدُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَخْرُجُ حَاكِمُهُمْ مِنْ وَسَطِهِمْ فَأَسْتَدْنِيهِ فَيَدْنُو مِنِّي ، إِذْ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى الاقْتِرَابِ مِنِّي مِنْ نَفْسِهِ ، وَتَكُونُونَ لِي شَعْباً وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً ﴾ ، والتقريب هنا معية خاصة ولا شك ولما كانت لإظهار مزيد تكريم وبهاء له دخل في معنى ذلك المشاهدة مثل ما اقتضى دخول التكليم .
ونظيره ما سيتحقق لنبيه أيوب عليه الصلاة والسلام ان كان بعلم الله عز وجل أنه ممن انتخب مع الأشهاد وقدر له ذلك ، وقد ورد له كلاما صريحا في ذلك قريبا سأورده ، ونظيره نبي الله تعالى داود نفسه صلوات ربي وسلامه عليه ، فقد يكون المعني بنصه الذي سأذكره قريبا نفس النبي داود إن كان هو كذلك ممن كتب مع الشهداء وإن لم يكنه فيقينا المقصود بذلك المهدي ، وقد ورد في الزبور وذكرته قبل والذي يليه وفيه تصريح أكثر في هذا الشأن يدلل وبقوة على أن نبي الله تعالى داود حقا هو ممن كتب مع الشهداء الذين سيرجعون آخر الزمان في اليوم الأخير ، فقال : ﴿ يَارَبُّ ، اذْكُرْنِي فِي رِضَاكَ عَلَى شَعْبِكَ ، تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِكَ ، لِكَيْ أَشْهَدَ نَجَاحَ مُخْتَارِيكَ وَلأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ ، وَأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ ﴾ . ولا تنسوا هنا تذكر كلام المسيح كيف أنعم الله عليه أن نال الفضل بأن يكون في جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم برجعته آخر الأيام ، ولا يستبعد أن النص السابق ما هو إلا الطلب ذاته من نبي الله تعالى داود ، وأن الله عز وجل استجاب له ذلك كما استجابه للمسيح عليهما الصلاة والسلام .
وصرح داود أكثر في رجعته بالقول كما مر معنا قبل : ﴿ يَا إِلهَ الْجُنُودِ ارْجِعَنا ، اطَّلِعْ مِنَ السَّمَاءِ وَانْظُرْ وَتَعَهَّدْ هذِهِ الْكَرْمَةَ وَالْغَرْسَ الَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ ، وَالابْنَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ ــ يريد بالابن المهدي نسبه لجده صلوات ربي وسلامه عليه ــ ، مِنِ انْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ . لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ ، وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ ، فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ ، أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ ، أَرْجِعْنَا ، أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ ﴾ .
وذلك كله ما دعاني لتقرير هذه المسألة بعد ما أصبحت عقيدة بالنسبة لي لا بد من تحرير الكلام فيها والتحقيق بأصولها .
ومن أدلة هذه العقيدة كما قلت غير ما ذكرت عن النبي ارميا عليه الصلاة والسلام ، ما ورد في زبور داود عليه الصلاة والسلام ، قوله : ﴿ أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ ، أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ ﴾ ، أي بمثالك يدل عليه ما ورد في سفر التكوين قوله : ﴿ وَقَالَ اللهُ : نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا ﴾ ، وما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في خلق آدم على صورة الرحمان عز وجل وهو في الصحيحين .
وورد في نسخة الكاثوليك بالتصريح بالصورة : ﴿ وأشبع عند اليقظة بصورتك ﴾ .
والكلام الوارد وينسب للزبور هنا لا معنى له إلا بمشاهدة المهدي لمثال الله عز وجل وصورته حين حلوله فوق جبل أحد بالمدينة المنورة ، أو أن المعني داود نفسه بتلك النبوءة ، ومهما يكن فالكلام من بعد من المعني بتلك النبوءة ، في بيان ما دلت عليه في جواز مشاهدة مثال الله عز وجل زمان عودة الشهداء ليتم الله بهم مقصده من اكتتابهم ونزعهم من أممهم .
وهذه إلماحة من نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام في ذلك قال : ﴿ يَكُونُ الْقَدِيرُ تِبْرَكَ وَفِضَّةَ أَتْعَابٍ لَكَ لأَنَّكَ حِينَئِذٍ تَتَلَذَّذُ بِالْقَدِيرِ وَتَرْفَعُ إِلَى اللهِ وَجْهَكَ تُصَلِّي لَهُ فَيَسْتَمِعُ لَكَ ، وَنُذُورُكَ تُوفِيهَا وَتَجْزِمُ أَمْرًا فَيُثَبَّتُ لَكَ ، وَعَلَى طُرُقِكَ يُضِيءُ نُورٌ ﴾ .
ومما نسب لأيوب عليه الصلاة والسلام قوله : ﴿ أعلم أن إلهي حي وأني سأقوم في اليوم الأخير بجسدي وسأرى بعيني الله مخلصي ﴾ ، وقبل ما أبين مدى تحريف عباد الصليب على نص نبوءته هذه أحب أورد نبوءته الأخرى والتي كما داود توسع فيها بذكر رجعته عليه الصلاة والسلام للإشهاد ، فقال : ﴿ مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ ، فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ أُحْسِنُ الدَّعْوَى أَمَامَهُ ، وَأَمْلأُ فَمِي حُجَجًا ، فَأَعْرِفُ الأَقْوَالَ الَّتِي بِهَا يُجِيبُنِي ، وَأَفْهَمُ مَا يَقُولُهُ لِي ، أَبِكَثْرَةِ قُوَّةٍ يُخَاصِمُنِي؟ كَلاَّ وَلكِنَّهُ كَانَ يَنْتَبِهُ إِلَيَّ .. هأَنَذَا أَذْهَبُ شَرْقًا فَلَيْسَ هُوَ هُنَاكَ ، وَغَرْبًا فَلاَ أَشْعُرُ بِهِ ، شِمَالاً حَيْثُ عَمَلُهُ فَلاَ أَنْظُرُهُ. يَتَعَطَّفُ الْجَنُوبَ فَلاَ أَرَاهُ . لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي ، إِذَا جَرَّبَنِي أَخْرُجُ كَالذَّهَبِ . بِخَطَوَاتِهِ اسْتَمْسَكَتْ رِجْلِي ، حَفِظْتُ طَرِيقَهُ وَلَمْ أَحِدْ ، مِنْ وَصِيَّةِ شَفَتَيْهِ لَمْ أَبْرَحْ ، أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَتِي ذَخَرْتُ كَلاَمَ فِيهِ . أَمَّا هُوَ فَوَحْدَهُ ، فَمَنْ يَرُدُّهُ ؟ وَنَفْسُهُ تَشْتَهِي فَيَفْعَلُ ، لأَنَّهُ يُتَمِّمُ الْمَفْرُوضَ عَلَيَّ ، وَكَثِيرٌ مِثْلُ هذِهِ عِنْدَهُ ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْتَاعُ قُدَّامَهُ ، أَتَأَمَّلُ فَأَرْتَعِبُ مِنْهُ ، لأَنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَ قَلْبِي وَالْقَدِيرَ رَوَّعَنِي ، لأَنِّي لَمْ أُقْطَعْ قَبْلَ الظَّلاَمِ ، وَمِنْ وَجْهِي لَمْ يُغَطِّ الدُّجَى ﴾ . وفي كل ما قاله اشارات لاختياره مع الأشهاد .
لكن العجب اتفاق ما قيل هنا مع ما قيل بحق المصطفى صلى الله عليه وسلم في رجعة كل منهما للإشهاد ، فهنا يقول أيوب عليه الصلاة والسلام :﴿ يُتَمِّمُ الْمَفْرُوضَ عَلَيَّ ، وَكَثِيرٌ مِثْلُ هذِهِ عِنْدَهُ ﴾ وفي القرآن بحق النبي محمد عليه الصلاة والسلام قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ وقوله وكثير مثل هذه عنده اشارة لكثرة من فرض عليهم من الأنبياء هذا الإشهاد فيتممه الله تبارك وتعالى كما كتب ووعد .
ونظيره في الزبور وذكرته قبل قليل : ﴿ يَا إِلهَ الْجُنُودِ ارْجِعَنا ﴾ و ﴿ أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ ، أَرْجِعْنَا ، أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ ﴾ . والحق يشهد بعضه لبعض ، والباطل هو الذي يختلف ويتنافر ويتضاد دوما .
ومنهم نبي الله تعالى دانيال عليه الصلاة والسلام حيث قيل له : ﴿ وأنت اذهب إلى الانقضاء وستستريح وتقوم في قُرعتك إلى انقضاء الأيام ﴾ . ويشهد لكل ذلك القرآن كما قلت قبل بقوله عز وجل : ﴿ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ ، ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنـوا ويتخذ منكـم شهداء والله لا يحب الظالمين ﴾ . وعلى ذلك القصد من كلام النبي دانيال قوله: ﴿ وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ ، الْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ ﴾ ،
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾،﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ ، ولا يحصي عددهم إلا المولى عز وجل، حتى صرح المسيح بإنجيله أن أحد الفريسيون اختير لمقام الشهداء وبعد أن سرد قصصه قال : ﴿ لقد كان هذا الرجل فريسيا حقيقيا وإن شاء الله أمكنا أن نأخذه يوم الدين صديقا لنا ﴾." الفصل 151 "
ويقول أحد كتاب العهد القديم ممن له باع واسع بالاطلاع على أخبار الأنبياء : " أخنوخ أرضى الرب فنقل وسينادي الأجيال إلى التوبة ".
بينما قال عن إيليا النبي صلوات ربي وسلامه عليه : "وقام إيليا النبي كالنار وتوقد كلامه كالمشعل .. وقد اكتتبه الرب لأقضية تجري في أوقاتها" .
ويلاحظ هنا قوله عن إيليا بأنه اكتتب نظير قول الله تعالى " أُقِّتَتْ " ويتضح المعنى برجعتهم لما قدره تعالى من اشهاد أولئك الأنبياء على أقوامهم .
وعلى وفق ما ذكر ذلك الكاتب " يشوع بن سيراخ " ندرك بأن هذا المعتقد معلوم لديهم أو على الأقل علماء بني إسرائيل القدامى منهم بما صرح به هذا اليشوع واثبت ذكره بانجيل المسيح عليه الصلاة والسلام الصحيح ـ كتبه تلميذه البار برنابا رضي الله عنه ـ .
بل يذهب ذلك الكاتب لأبعد من ذلك حين سرد مناقب الأنبياء وبلغ ذكر نبي الله تعالى حزقيال عليه الصلاة والسلام فقال : " ورأى حزقيال رؤيا المجد التي أراه إياها بمركبة الكروبين ، أنذر الاعداء بالمطر ووعد المستقيمين في طرقهم بالإحسان ، لتزهر عظام الأنبياء الاثني عشر من مكانها فإنهم عزوا وافتدوا بإيمان الرجاء " . ولا ندري هل علم أسماءهم كما علم عددهم ؟
وقد يكون منهم بعض من يوصفون قديما في بني إسرائيل بالقضاة وكانوا أنبياء مخلصين صالحين ، فأولئك قال عنهم ذلك الكاتب أيضا :
" والقضاة كل منهم باسمه الذين لم تزن قلوبهم على الرب ولم يرتدوا عنه ، ليكن ذكرهم مباركا ولتزهر عظامهم من مواضعها ، وليتجدد اسمهم وليمجدهم بنوهم " .
وابتدأ بذكر صموئيل منهم واثنى على ذكره أنه : " بإيمانه اختبر أنه نبي وبإيمانه علم انه صادق الرؤيا " .
ثم ثنى بذكر النبي " ناثان " وأنه كان رائيا في زمان خليفة الله تعالى داود عليهما الصلاة والسلام .
أقول : أما بخصوص صموئيل عليه الصلاة والسلام ففي النبوءات تلك الإشارات في رجعته من ذلك ما قاله ارميا في رؤيا له عليه الصلاة والسلام : ﴿ وحَتَّى لَوْ مَثَلَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي ، مِنْ أَجْلِ الشَّعْبِ فَإِنَّ قَلْبِي لَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الشَّعْبِ ، اطْرَحْهُمْ مِنْ مَحْضَرِي فَيَخْرُجُوا ، وَعِنْدَمَا يَسْأَلُونَكَ : إِلَى أَيْنَ نَذْهَبُ ؟ أَجِبْهُمْ : هَذَا مَا يُعْلِنُهُ الرَّبُّ : مَنْ هُوَ لِلْوَبَأِ فَبِالْوَبَأِ يَمُوتُ ، وَمَنْ هُوَ لِلسَّيْفِ فَبِالسَّيْفِ يُقْتَلُ ، وَمَنْ هُوَ لِلْمَجَاعَةِ فَبِالْمَجَاعَةِ يَفْنَى ، وَمَنْ هُوَ لِلسَّبْيِ فَإِلَى السَّبْيِ يَذْهَبُ ﴾ . انظروا جيدا لتقسيمات العذابات تلك واعتبروا بما بدأ الناس يشكون منه في زماننا من تنوع المهالك وكثرة المخاطر ليدرك من لا زال به بقية عقل أن هؤلاء هم المعنيين بكل تلك النبوءات ، وأيضا من المشاهد بانطباق تلك النبوءة عليهم اليوم تخصيص الله عز وجل لكل شعب وقوم عذابهم الخاص بهم ، فمنهم كمصر مثلا يبتلى اكثر بانهيار البنايات ، ومثل بعضهم بشرق آسيا يبتلى بافاضة مياه البحر كما حصل باندونيسيا واليابان لاحقا ، ومثل الحرائق تكثر بقوم دون غيرهم ، وأيضا العواصف الشديدة والطوفانات ، وكذلك الجفاف والجوع يسلط أكثر على قوم أكثر من غيرهم ، وهكذا قيسوا على معنى نص تلك النبوءة ستجدونه كما قلت لكم مما يؤكد على أن تحقق تلك النبوءات حقا أنها على رؤوس هؤلاء الأشرار وليس على أقوام قبلهم .
وذكر موسى وصموئيل في سياق هذ الذكر اشارة لرجعتهما عليهما الصلاة والسلام ، لأن من يدرك هو من يمكنه الشفاعة في هؤلاء أما من لن يدرك ذلك فمن اللغو تخصيص اسمه في ذلك وهو ليس ممن سيدرك عذابات أولئك ، والرب منزه عن اللغو ولا يقول إلا الحق في كل شيء .
ونظير هذا ما قاله حزقيال عليه الصلاة والسلام في تعداد العذابات ومنع شفاعة من سيدركهم من الأنبياء : ﴿ إِذَا أَخْطَأَتْ إِلَيَّ أَرْضٌ وَخَانَتْ عَهْدِي ، أُعَاقِبُهَا وَأُعْوِزُهَا مَؤُونَةَ الْخُبْزِ وَأُشِيعُ فِيهَا الْجُوعَ ، وَأُفْنِي مِنْهَا النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ ، وَحَتَّى لَوْ كَانَ فِيهَا هَؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ : نُوحٌ وَدَانِيآلُ وَأَيُّوبُ فَإِنَّهُمْ يَخْلُصُونَ وَحْدَهُمْ فَقَطْ بِبِرِّهِمْ ﴾ . فذكر مع الجوع الوبأ والسيف وغير ذلك لو شفع فيهم أولئك الأنبياء لن تقبل شفاعتهم ، وهو نظير ما قاله النبي ارميا في موسى وصموئيل ، ما يفيد الإشارة إلى أن كل أولئك من الشهداء الذين كتب الله عز وجل بعثهم آخر الزمان كل على أمته وقومه .
أما في الزبور فهناك تلك الإشارة لرجعته مع الأشهاد ومعه موسى وهارون صلوات ربي وسلامه عليهم جميعا ، فيقول : ﴿ عَلُّوا الرَّبَّ إِلهَنَا ، اوَاسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ . قُدُّوسٌ هُوَ . مُوسَى وَهَارُونُ بَيْنَ كَهَنَتِهِ ، وَصَمُوئِيلُ بَيْنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِهِ ... عَلُّوا الرَّبَّ إِلهَنَا ، وَاسْجُدُوا فِي جَبَلِ قُدْسِهِ ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا قُدُّوسٌ ﴾ . وبذكر موطئ قدميه وجبله المقدس لهو أظهر شيء على المقصود بالرجعة هنا ، فالجبل هنا المراد به جبل أحد مستقر رجعة الأشهاد فموسى صلى الله عله وسلم لم يعبر الأردن ليمر على أي جبل هناك ولا صموئيل أدرك الهيكل ولا جبل الهيكل ، فيقينا المقصود المدينة وجبل أحد وهناك سيكون حلول الرب ومستقر قدميه عز وجل وذلك في القرآن صريح : ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ، إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ . وسماه مقعد صدق بقوله عز وجل : ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ ، مثل ما سماه لبني اسرائيل بمبوأ الصدق فقال : ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ , فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ , وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ , إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ , وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ ، وهنا فرق ما بين الحال في هذه الأمة وفي بني إسرائيل بالنسبة لمقعد الصدق وقدم الصدق ، وفي بني إسرائيل سماه مبوأ صدق سواء وهم بمصر أو في جزيرة العرب : ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، وفي الصديق يوسف عليه الصلاة والسلام قال:﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهنا اتفق الزبور والقرآن في حال أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإرجاع الضمير في مقعد الصدق وقدم الصدق للرب جل وعلا نفسه سبحانه ، فكان بحلوله على جبل أحد بالمدينة المنورة له قدم الصدق هناك ومقعد الصدق ﴿ وَاسْجُدُوا عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ قُدُّوسٌ هُو ﴾ ، فلما كان مقامه في هذه الأمة ومستقره على جبل أحد لزمهم بذلك استقرارهم هناك للاستواء على الجبل ما صح على وفقه وصفه بالقدم والمقعد ، أما بحال بني اسرائيل خصوصا بتجوالهم في برية الجزيرة فسماه مبوأ صدق ، وبادراك الفرق هنا ما بين حال التجوال والاستقرار يعرف المعنى والفرق بين تلك الأوصاف التي ذكرت بحال التمكينين تمكين بني إسرائيل ، وتمكينه في هذه الأمة ، ولا مبالغة لما أقول لا مقارنة ما بين التمكينين والخلاصين ، لأن الله تعالى نفسه نفى جواز المقارنة على لسان أحد أنبياءه وهو حجي فقال : ﴿ مَنِ الْبَاقِي فِيكُمُ الَّذِي رَأَى هذَا الْبَيْتَ فِي مَجْدِهِ الأَوَّلِ ؟ وَكَيْفَ تَنْظُرُونَهُ الآنَ ؟ أَمَا هُوَ فِي أَعْيُنِكُمْ كَلاَ شَيْءٍ . تَشَدَّدُوا يَا جَمِيعَ شَعْبِ الأَرْضِ ، يَقُولُ الرَّبُّ وَاعْمَلُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ، حَسَبَ الْكَلاَمِ الَّذِي عَاهَدْتُكُمْ بِهِ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ وَرُوحِي قَائِمٌ فِي وَسَطِكُمْ ، لاَ تَخَافُوا ، لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ : هِيَ مَرَّةٌ ، بَعْدَ قَلِيلٍ ، فَأُزَلْزِلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَالْيَابِسَةَ وَأُزَلْزِلُ كُلَّ الأُمَمِ وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ الأُمَمِ ، فَأَمْلأُ هذَا الْبَيْتَ مَجْدًا ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ : مَجْدُ هذَا الْبَيْتِ الأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الأَوَّلِ ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ ، وَفِي هذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلاَمَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ ﴾ .
ولم ينفك كذلك هذا النص والسياق من إلماحة لرجعة موسى وهارون ، فهم من امكنهم معاينة مجد الله تعالى بزمانهم ومجده الثاني في هذه الأمة بقوله : ﴿ مَنِ الْبَاقِي فِيكُمُ الَّذِي رَأَى هذَا الْبَيْتَ فِي مَجْدِهِ الأَوَّلِ ؟ وَكَيْفَ تَنْظُرُونَهُ الآنَ ؟ أَمَا هُوَ فِي أَعْيُنِكُمْ كَلاَ شَيْءٍ ﴾ هذا لا يصدق إلا مع رجعة موسى وهارون فهم من عاين مجد الله تعالى بوقتهم وسيعاينون مجد الله عز وجل الثاني ، فأتت تقرر هذه النبوءة نفي المقارنة ما بين المجدين حتى أن الأول سيعد لمن عاين الأول وسيعاين الثاني كلا شيء ، تبطل المقارنة ، فياله من أمر عظيم فوق الخيال ولا يطال إلا بالإيمان وتحقق التأويل بتصديق الله عز وجل وعده ، وتصديق ما قاله رسله من قبل .
وذاك هو المقام العظيم المحمود الذي شاء الرب عز وجل أن ينزع له من شاء من رسله والأنبياء ويتخذ منهم شهداء ، ومنهم من كان ذكره بذلك صريحا كالمسيح وادريس وايليا ، ومنهم من كان تلميحا وشبه تصريح كمحمد صلى الله عليه وسلم ونوح وموسى وهارون والخليل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين : ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴾ ، ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ .
ومن ورثة الجنة أولئك يعقوب واسحاق صلوات ربي وسلامه عليهما لقوله تعالى : ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً ، وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾. عليا في الآخرين وهي هبة الرحمة ، ويريد جمعهم في جملة الشهداء أمام مقعد الصدق وقدم الصدق . وأيا كان وصفه لذلك بلسان أو مقعد أو قدم أو مخرج فلا يسميه إلا بالصدق مثاله أيضا قوله على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم لما لمح لذلك فقال : ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ وهو المقام المحمود الذي وعده : ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ، وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ .
حقا انه مقام محمود عظيم وكل من بشر من الأنبياء ووعد بذلك فسيعود ليقوم ذلك المقام العظيم مع إخوانه من الرسل والأنبياء ، ومن كلام ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام المذكور قبل : ﴿ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ والذي سيأتي ذكره لاحقا من سورة الصافات ، فكل ذلك مما يدل على أن الخليل عليه الصلاة والسلام ممن سيقوم ذلك المقام المحمود العظيم للشهداء وأنه منهم ولا شك واماتته هنا وحياته الحياة الخاصة ليتم له ذلك ، ومثله الصديق يوسف عليه الصلاة والسلام فهما من طلب اللحاق بالصالحين والمراد الشهداء وأمرهم ، وبكل القرآن لم يرد هذا الطلب والدعاء إلا على لسان هذين النبيين الكريمين ابراهيم ويوسف عليهما الصلاة والسلام وذلك اشارة لعودتهما لتحقيق الشهادة مع اخوانهم الأنبياء والرسل ممن كتب لذلك المقام المحمود العظيم ، ولهذا على لسان يوسف في هذا الطلب لم يذكر الموت هناك بل التوفي فقال : ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ ، ومن جهل المعنى هنا وحسب أنه انما يطلب الإماتة استشكل ذلك وأورد عليه نهي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت ، لكن يوسف لم يطلب الموت هنا إنما التوفي كحال عيسى صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : ﴿ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ ، وعليه فلا التوفي الذي طلبه يوسف النبي هنا عليه الصلاة والسلام هو الموت ، وليست الآخرة هنا إلا آخرة الدنيا ليكون مع الشهداء اخوانه ، وهكذا هو الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ .
وانظروا لما قاله نبيه اشعيا عليه الصلاة والسلام ، يكاد يفضح الأمر : ﴿ وَلَكِنَّ أَمْوَاتَكَ يَحْيَوْنَ ، وَتَقُومُ أَجْسَادُهُمْ فَيَا سُكَّانَ التُّرَابِ اسْتَيْقِظُوا وَاشْدُوا بِفَرَحٍ لأَنَّ طَلَّكَ هُوَ نَدًى مُتَلَأْلِيءٌ ، جَعَلْتَهُ يَهْطُلُ عَلَى أَرْضِ الأَشْبَاحِ تَعَالَوْا يَا شَعْبِي وَادْخُلُوا إِلَى مَخَادِعِكُمْ ، وَأَوْصِدُوا أَبْوَابَكُمْ خَلْفَكُمْ . تَوَارَوْا قَلِيلاً حَتَّى يَعْبُرَ السَّخَطُ ، وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرَّبَّ خَارِجٌ مِنْ مَكَانِهِ لِيُعَاقِبَ سُكَّانَ الأَرْضِ عَلَى آثَامِهِمْ فَتَكْشِفُ الأَرْضُ عَمَّا سُفِكَ عَلَيْهَا مِنْ دِمَاءٍ وَلاَ تُغَطي قَتْلاَهَا فِيمَا بَعْدُ ﴾ *.
ويقول مع هذا : ﴿ وَيَكُونُ أَنَّ الَّذِي يَبْقَى ويُتْرَكُ فِي دار السلام يُسَمَّى قُدُّوسًا ، كُلُّ مَنْ كُتِبَ لِلْحَيَاةِ فِي دار السلام ﴾ .
ويقول : ﴿ ماذا لي هناك يقول الرب فإن شعبي قد أخذ مجانا والمتسلطين عليه يجلبون يقول الرب واسمي لا يزال يجدف عليه كل يوم ، لذلك يعرف شعبـــي اسمي في ذلك اليوم لأني أنا المتكلم هآءنذا حاضرٌ . ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين المسمعين بالسلام المبشرين بالخير والمسمعين بالخلاص ﴾ .
هو كتاب إذا مدونة به اسمائهم ، ففي الزبور يقول عنه : ﴿ لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ الأَحْيَاءِ ، وَمَعَ الصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا ﴾ .
ويقول حزقيال عنه أيضا عليه الصلاة والسلام : ﴿ فَلاَ يَكُونُ لَهُمْ مَقَامٌ فِي جَمَاعَةِ شَعْبِي ، وَلاَ تُدَوَّنُ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الكِتَابِ ﴾ .
ويقول عنه النبي ملاخي عليه الصلاة والسلام : ﴿ فَتَمَّ تَدْوِينُ أَسْمَاءِ مُتَّقِيِّ الرَّبِّ وَالْمُتَأَمِّلِينَ بِاسْمِهِ أَمَامَهُ فِي كِتَابِ تَذْكِرَةٍ ﴾ .
أما دانيال عليه الصلاة والسلام فيقول : ﴿ وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ يَقُومُ مِيخَائِيلُ الرَّئِيسُ الْعَظِيمُ الْقَائِمُ لِبَنِي شَعْبِكَ ، وَيَكُونُ زَمَانُ ضِيق لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذلِكَ الْوَقْتِ ، وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ يُنَجَّون ، كُلُّ مَنْ يُوجَدُ مَكْتُوبًا فِي السِّفْرِ ﴾ .
ويقول النبي ارميا عن ذلك عليه الصلاة والسلام : ﴿ إِنَّهَا خُطَطُ سَلاَمٍ لاَ شَرٍّ لأَمْنَحَكُمْ مُسْتَقْبَلاً وَرَجَاءً فَتَدْعُونَنِي وَتُقْبِلُونَ ، وَتُصَلُّونَ إِلَيَّ فَأَسْتَجِيبُ لَكُمْ ، وَتَلْتَمِسُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَحِينَ تَجِدُونَنِي أَرُدُّ سَبْيَكُمْ وَأَجْمَعُكُمْ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الأُمَمِ وَمِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي شَتَّتُّكُمْ إِلَيْهَا ﴾ ، ﴿ فَعَلَ الرَّبُّ مَا قَصَدَ ، تَمَّمَ قَوْلَهُ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ مُنْذُ أَيَّامِ الْقِدَمِ ﴾ ، ﴿ وَأَجْلِبُ عَلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلَّ كَلاَمِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَيْهَا ، كُلَّ مَا كُتِبَ فِي هذَا السِّفْرِ الَّذِي تَنَبَّأَ بِهِ إِرْمِيَا عَلَى كُلِّ الشُّعُوبِ ﴾ .
ثم يقول عليه الصلاة والسلام طالبا الحضور للشهادة : ﴿ دَعْنِي أَرَى انْتِقَامَكَ مِنْهُمْ لأَنِّي لَكَ كَشَفْتُ دَعْوَايَ ﴾ .
ومثله طلب داود عليه الصلاة والسلام كما في الزبور : ﴿ لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ جَلَسْتَ عَلَى الْكُرْسِيِّ قَاضِيًا عَادِلاً ﴾ ، وهذا فيه القطع على حضور داود معهم عليه الصلاة والسلام .
أما حزقيال عليه الصلاة والسلام فيقال له : ﴿ لكن عند وقوع الأمر وها انه قد وقع يعلمون ان نبيا كان بينهم ... فيكون حزقيال لكم آية مثل كل ما صنع تصنعون حين يقع الأمر فتعلمون أني انا الرب ﴾ .
وشاهد كل ذلك في القرآن قوله عز وجل : ﴿ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ، لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ، ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ، وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ , لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ، فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ، هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ، قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ، فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ . قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ، قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ، وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ، ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ، وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ، وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ , أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ، هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ , يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ , قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ .. وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ . أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
وهكذا كان هذا الأمر العظيم سرٌ لله تعالى وعهد بينه وبين رسله يربط به على قلوبهم ويعلمهم أحكامه من غير أن يعلم الناس عنه بالتفصيل الصريح إلا ما كان من الماحة هنا وهناك ، مثل رفع إلياس وتلميذه يشاهد ، أو رجعته وموسى لملاقاة المسيح وبعض تلاميذه ، وغير ذلك حتى تكرس لدى مثل كاتب اسفار العهد عند اليهود " يشوع " فيما قاله وذكرته قبل عن اكتتاب ايليا ورفع ادريس وعن الأنبياء والقضاة ، وهكذا لمح في زبور داود عن هذا السر بقوله:﴿ سبل الرب جميعها رحمة وحق لحافظي عهده وشهاداته ... سر الرب لمتقيه ولهم يعلن عهده ﴾ وفي نسخة اخرى ﴿ يطلع الرب خائفيه على مقاصده الخفية ويتعهد تعليمهم ﴾ .
ويقول عليه الصلاة والسلام في زبوره : ﴿ أحببت الحق في الأفئدة وفي الخفية أعلمتني الحكمة ، تنضحني بالزوفى فأطهر تغسلني فأبيض أكثر من الثلج ، تسمعني سرورا وفرحا فتبتهج العظام التي هشمتها .. قلبا طاهرا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي لا تطرحني من أمام وجهك ولا تنزع مني روحك القدوس ، اردد لي سرور خلاصك فيعضدني روح نشيط ، أعلم العصاة طرقك فيرجع إليك الخطأة ﴾ . فهذا مما رمز في الزبور في مناجاة النبي بإرجاعه للشهادة .
أما في كتاب الله عز وجل فالتلميحات في ذلك معلومة لدي وقد ذكرت فيها تفصيلات هنا وهناك ومن ذلك في كتابي " وجوب الاعتزال " و " رفع الإلتباس " ، وهنا أؤكد على التنبيه بالنسبة لرجعة الأنبياء التالية اسمائهم لتحقيق الشهادة مع اخوانهم ، وهم نوح وابراهيم وموسى وهارون والياس ، فإن الله تعالى لما قرر الإشارة لذلك في سورة الصافات وضع له هناك مفتاح سر لا يدريه أي أحد وهو ( وتركنا عليه في الآخرين ) يريد آخر الناس في جيل الأشرار ، ولما كان النبي الياس من المعلوم يقينا رفعه لإرجاعه في الآخرين كما تقرر ذلك في انجيل المسيح عليه الصلاة والسلام وقد ذكرته من قبل ولا بأس اعيد ذكره هنا ، قال : ﴿ سأعود قبيل النهاية وسيأتي معي أخنوخ وإيليا ونشهد على الأشرار الذين ستكون آخرتهم ملعونة ﴾ . ولما يأتي على ذكره عز وجل في سورة الصافات ثم يقول عنه ( وتركنا عليه في الآخرين ) ، فهذا مما يعني فيه رجعته ولا شك ، ثم إنه يقرن ذلك القول بالأنبياء المذكورين معه تباعا ما يعني رجوعهم كلهم مثله للشهادة تماما ، وهاكم سرد تلك الآيات في ذكر أولئك جميعا وكلهم يؤكد عز وجل مثل ما أكد على إلياس أنه جعل عليهم في الآخرين ، فقال : ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ..
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ، وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ، سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ، أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ....
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ . ثم يختم تبارك وتعالى بأن تلك كلمته التي سبقت لهم وأنهم المنصورون الغالبون ، وهو وعد قطعه عز وجل على نفسه في نصرة هؤلاء الأشهاد ومن سيكون معهم : ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ , هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ , فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ .
إنها عقيدة حق ووعد حق نص عليها الأنبياء قبل وأنزل القرآن على قلب حبيب الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم التأكيد على ذلك المعتقد والثناء على من صدق به ، لأنه تصديق بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل من قبله ولا شك .
وبإيجاز أقول هنا في ذلك الخصوص :
أن عدد الأنبياء الذين ذكروا بكتاب الله تعالى القرآن كثر كما يعلم ذلك كل مسلم إلا ان الله تعالى لم يورد بكتابه كلمة " يصدنك " إلا مرتين فقط ، كل منها قصاد ذكر نبي من الأنبياء الذين سيرجعون مع الشهداء ، ولم يتكرر ذلك مع غيرهم ونعتقد بأن ذلك من المثاني بالقرآن التي يقشعر منها جلود الذين يؤمنون ثم تلين جلودهم بعد ذلك لذكر الله تعالى مما يهبهم الله تعالى من إيمان بذلك وخشوع وتصديق وانقياد .
الأولى لموسى صلوات ربي وسلامه عليه فقال تعالى في اول سورة " طه " : ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ، إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ، فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ ، في حين قال قريبا من ذلك بحق المصطفى صلى الله عليه وسلم في خاتمة سورة القصص : ﴿ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ، وحين يعتبر العاقل متى قال تعالى ذلك بحق محمد صلى الله عليه وسلم سيجده قاله بعد آيتين فقط من قوله عز وجل : ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ ، وليس لذلك شبيه بتاتا في القرآن إلا ما كان في سورة الزخرف أذكرها تحاشيا من أن يستدرك بها لئيم وهي حجة لنا هنا لأنها وردت للتأكيد على المعنى المقرر هنا ولوما ذلك المحذور لم أعرج على ذكرها ، مع أن بها الحجة أظهر لأنها بصيغة الجمع وفي ذلك تأكيد على خطورة انكار هذا المعتقد على الجميع ، وأعني قوله تعالى حين أشار لعودة المسيح يسوع عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ، وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ . فالخطاب هنا ولو كان بصيغة الجمع " ولا يصدنكم " فلا نعتقد إلا أن المعني به المصطفى صلى الله عليه وسلم وحده فهو من انذر بذلك هنا وبآية سورة القصص وأيضا بقوله تعالى يحذره ترك الإيمان بلقاء موسى صلوات ربي وسلامه عليه : ﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ﴾ ، فهو أبدا إذا نهاه عن التشكيك بلقاء الساعة أو أحد الأنبياء ، إلا ينهاه عن الامتراء في ذلك .
ومما يؤكد على ما سبق وبينته أنه معتقد معلوم قديما لعلماء بني إسرائيل ، وأنه إذا نهى الأنبياء عن التشكيك فيه إلا ينهاهم من أن يمتروا به سواء كان ذلك في حق موسى أو عيسى أو محمد صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين ، أو كون ذلك آية من آيات الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ .
ومما يؤسف له أن اليهود وبخوا لكتمانهم ذلك ، فكيف بحال من جهل ذلك ولما بلغه العلم والهدى أنكره أشد الإنكار بل لعن من يعتقده ونسبه بعضهم للإلحاد والكفر وبعضهم للشيطان الملعون ، وتنوعت بذلك الجهالات العظيمة ، ومرده كما ترون للحق ولكتب ربنا وعقيدة الأنبياء ، فلعن الله تعالى الجهل لا يأتي إلا بالشر والضلال .
وأقول : حين يعتبر المؤمن بقوله تعالى لموسى ووحيه له أول ما أوحى له عن الساعة وأنه سيلقاها ، وينهى رسوله أول ما ينهاه عن أن يصد عن الساعة إلا ليعلمه أنه مما قدر عليه أنه سيلقى الساعة ويدركها وأنه سينزع ليكون من الشهداء هو وأخيه وكان الله عز وجل يهيئه لذلك ، ولو لم يكن ذلك على الحقيقة لم يكن معنى لذلك النهي بل يعد من لغو الحديث أو كذبه وتنزه ربنا من أن يقول اللهو والباطل ، بل قال ذلك وهو يعنيه وقدره على موسى ولهذا نهي أيضا نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم من أن يمتري بلقاء موسى صلوات ربي وسلامه عليهما ، ولا بلقاء عيسى وهو علم للساعة رفع لأجل أن يعود للاجتماع بسائر الأنبياء الذين وقت لهم تعالى واكتتبهم عنده وانتخبهم للرجعة ليقوموا بالشهادة كل على أمته ، ﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ ، ﴿ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ .
ويجدر التنبه هنا لتأكيد المولى على أن النهي عن أن يصد عنها حقيقي وأنه وعيد بحق موسى إذ عاد الضمير بالتردي لموسى نفسه وليس لمن قد يكون الصاد له عنها ، ما يؤكد على ان اعتقاد رجعة موسى للساعة كما عيسى وغيره عليهم الصلاة والسلام اعتقاد حق وليس باطلا كما تزعم ذلك الشياطين اليوم ، ويجهله من جهله من قبل ، لهذا قيل بأن بني اسرائيل لم يهتدوا لنبيهم ورسولهم موسى على قبر ، وهذا مصرح به في كتابهم المقدس ، بل حتى هارون أخيه لما قيل لهم توفي ما كان صعد معه وموسى للجبل أي شاهد حتى يكون الأمر بالخفاء فلا يهتدوا لقبر له ولا يعاينون دفنه لأن أمره مما أبهم عليهم فلم يقم عليه شاهد منهم ، وحتى المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يشهد دفنه إلا علي وقيل معه العباس رضي الله عنهما ممن لا يستبعد عليهم العلم الخاص وكتمانه .
فكان هنا نهي موسى بلقاء الساعة تصريحا ، وبحق محمد صلى الله عليه وسلم تلميحا حين قال بذلك ونهاه على سبيل طلب الإيمان بالآيات ومما لا شك فيه ان رجعة الانبياء للإشهاد من آيات المولى عز وجل ، فكان نهاه وقبله نص على أنه سيرجع للميعاد ويعني بذلك ما قدر من رجعته مع أولئك الرسل للإشهاد ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ﴾ ، ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ . ويقول النبي ارميا : ﴿ إِنَّهَا خُطَطُ سَلاَمٍ لاَ شَرٍّ لأَمْنَحَكُمْ مُسْتَقْبَلاً وَرَجَاءً فَتَدْعُونَنِي وَتُقْبِلُونَ ، وَتُصَلُّونَ إِلَيَّ فَأَسْتَجِيبُ لَكُمْ ، وَتَلْتَمِسُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَحِينَ تَجِدُونَنِي أَرُدُّ سَبْيَكُمْ وَأَجْمَعُكُمْ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الأُمَمِ وَمِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي شَتَّتُّكُمْ إِلَيْهَا ﴾ .
إنها عقيدة حق عظيمة كما ترون وسيبارك من يؤمن بها ويلعن من سيلعنها ويكفر بها .
وقال : ﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾ أي يؤمنوا بالوعد وصدقه وهو المتلو هنا لا القرآن ، وإنما القرآن نزل بعدهم وفيه تفصيل هذا الوعد ، وهم يعرفونه حق المعرفة ، قال تعالى : ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ يعرفون خبر هذا الوعد المفصل أمره عند علماء بني إسرائيل وكانوا يتكاتمونه بينهم ويتواصون على ذلك حتى لا تعرف حقيقة هذا الوعد حسدا منهم أن يعرف أنه في بني إسماعيل في محمد صلى الله عليه وسلم وحفيده المهدي . قال تعالى : ﴿ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ﴾ .
وما زالوا يدعونه لأنفسهم وكانوا يستفتحون به على الناس قبل دعوة رسول الله فكشف القرآن كذبهم في ذلك ، ومع ذلك لم ينتهوا وما زالوا يتبجحون في أنه عهد وميثاق من الله قطعه في آبائهم أن يجعله في آخر ذريتهم ، قال تعالى : ﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ .
وقال : ﴿ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين . يوم لا يغني مولا عن مولا شيئا ولا هم ينصرون ، إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم ﴾ إنما ينصر حين تحقق الوعد الأشهاد من الرسل ومن اتبعهم يومئذ من المؤمنين قال تعالى في ذلك : ﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون . فتول عنهم حتى حين ﴾ حتى يتحقق الوعد المنتظر ، وتكشف الحقائق وتزول الأكاذيب ، فبتأويل الكتاب يفصل بينهم ويقضى بالحـق ويصيبهم العذاب اللازم ، وسماه عذاب يوم عقيم ، وأليم ، العذاب الذي جعل له المولى عز وجل موعدا مسمى وأجلا محتوما لا فكاك لهم منه وقد أكثر سبحانه في تفصيل خبره من ذلك قوله : ﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة ﴾ و ( إما ) هنا لتنوع الخطاب لا الشك ، لقوله سبحانه : ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ﴾ قطع هنا بسبق الهزيمـة والتعذيب قبل الساعة ، ويكون على هذا الوعيد بالأمـرين بالعذاب والساعة ﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ﴾ ﴿ لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ﴾ .
وقبل أن يأخذنا الحديث لعصا موسى كيف أنها ستنتهي ليمين المهدي بإذنه تعالى ، سأتطرق لتحريف عباد الصليب لنبوءة أيوب عليه الصلاة والسلام التي سبق ونقلتها وفيها الإشارة لعودته : ﴿ أعلم أن إلهي حي وأني سأقوم في اليوم الأخير بجسدي وسأرى بعيني الله مخلصي ﴾ ، قلب معناها المحرفون الذي كتبوا العهد القديم للسذج والبسطاء من أتباع تلك الديانة الباطلة ، من أن يكون الراجع النبي أيوب نفسه عليه الصلاة والسلام ليكون بدلا منه الراجع ابن الله عليهم اللعن ما أكذبهم على الله تعالى ورسله ، ومعلوم أن أيوب قبل حياة المسيح ومع هذا جعلوا قوله ذاك في المسيح وأنه إلهه وفاديه أيضا ولم يتساءل الأغبياء ممن اتبعهم كيف يفديه المسيح وأيوب قبله لم يعلم به بعد ؟! : ﴿ إني لأعلم بأن فادي حيٌ وسيقوم آخرا على التراب ، وبعد ذلك تلبس هذه الأعضاء بجلدي من جسدي أعاين الله .. قد فنيت كليتاي شوقا في داخلي ﴾ .
وانظروا لتقرير إلههم الباطل الحقيقي في عقيدة الفداء بولس ماذا يقول في ذلك : " الجميع قد خطئوا فيعوزهم مجد الله ، فيبررون مجانا بنعمته بالفداء الذي هو بالمسيح يسوع ، الذي جعله الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره بمغفرة الخطايا السالفة ، التي انما احتملها الله ليظهر بره في هذا الزمان حتى يكون هو بارا ومبررا من له الإيمان بيسوع المسيح ، فأين المفاخرة إنها قد ألغيت ، وبأي ناموس أبناموس الأعمال ! ، لا بل بناموس الإيمان ! ، لأنا نحسب أن الإنسان إنما يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس ، ألعل الله إله لليهود فقط أليس للأمم أيضا ، بلى هو للأمم أيضا ، فإن الله واحد ويبرر الختان بالإيمان والقلف بالإيمان ، أفنبطل الناموس بالإيمان حاشى بل نثبت الناموس". " من رسالته لأهل رومية "
ثم هو مستمر بهذيانه لكن لهدف شيطاني بأن يدخلهم كلهم مع شركهم في جهنم ، لأن ناموسى موسى فرض الختان واعتبر المسيح من يرفض الختان غير مستحق لدخول الجنة ولن يدخلها بل سيدخل النار ، فأتى ابليس لهم على لسان ذلك الملعون ليتوج شركهم بيسوع دخولهم جهنم غير مختونين ، لقد عطل الشيطاني مع كل كذبه بدعوى الألوهية ليسوع ، التحاكم للناموس الموسوي والبر بالأعمال الصالحة على وفق تلك الشريعة ، فاختزل الصلاح الذي دل عليه ناموس موسى صلى الله عليه وسلم وضبط على وفقه قوانين الأعمال فجعل الحكم بولس بدلا من ذلك لما أسماه بهذيانه بناموس الإيمان ، فمن يريد ينال البر والخلاص عليه بناموس الإيمان الذي زعم ولو عارض ناموس شريعة موسى وأعمالها ، وهو يريد طبعا إيمانه الخاص بألوهية يسوع المسيح وتعطيل أكبر معضلة واجهته في تلك الشريعة وهي حكم الختان ولم ينفتح له الطريق بالدعوة للشرك والكفر إلا بإبطال حكم الختان حتى بلغنا الوقت بإحدى محاكم ألمانيا بتجريم الختان على المسلمين واليهود سواء ، وهي من آخر تقليعاتهم الكفرية واتماما لشيطنة بولس السابقة .
وتمعنوا كذلك في نتيجة هلوسات الشيطاني بولس هذا ماذا انتجت كمثال في الرعاع اليوم من أتباع أكاذيبه وهلوساته غير ما آل إليه الأمر بتلك المحكمة في ألمانيا مؤخرا ، وكل ذلك من تسويغ الشيطان على لسان بولس للاستهانة بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام التي لم يسع المسيح نفسه ولا يمكنه أن ينقض ولا حكما واحدا فيها أما ابليس فهو أجرأ وعلى النقض لها أقدم لأنه يقصد الكفر لا الإيمان الحق ، مع أنه وبالرغم من ذلك فبولس نفسه ذم اتيان النساء من أدبارهن أو بعضهن البعض ، أو الذكور حين يأتون بعضهم البعض وسمى ذلك فحشا كما ناموس موسى وشريعة كل الأنبياء ، لكن تمعنوا لما آلت إليه أمور من يدعي اتباع دينه اليوم ، فلا هم ليسوع ولا لشريعة موسى صلوات ربي وسلامه عليهم ولا حتى لبولس وإيمانه الشيطاني ، انسلاخ يتبعه انسلاخ حتى باتوا جردا من كل شيء من الإيمان الحق وأعمال الشريعة الحقة ، فلا هم لأنبياء الصدق ولا أنبياء الكذب ، لهذا تصفهم النبوءات بشر الخلق وأن عليهم اللعنات الكثيرة وسيدمرهم الله لعظيم كذبهم عليه وعلى رسله.
قال بولس الكافر بالله تعالى ونبيه يسوع عليه الصلاة والسلام : " أسلمهم الله إلى أهواء الفضيحة فإن إناثهم غيرن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة ، وكذلك الذكران أيضا تركوا استعمال الأنثى الطبيعي والتهبـــــــــوا
بعشق بعضهم بعضا ففعل الذكران بالذكران الفحشاء ونالوا في أنفسهم الجـــــــــزاء
اللائق بضلالهم *، ممتلئين من كل إثم وشر وزنى وبخل وخبث مفعمين حسدا وقتلا
وخصاما ومكرا وإساءة نمامين .. وهم مع معرفتهم قضاء الله لم يفهموا أن الذين يفعلون مثل هذه يستوجبون الموت وليس الذين يعملونها فقط بل أيضا الذين يرضون عن فاعلها ". " المصدر السابق "
من هؤلاء يا بولس ؟!
قال هم الذين : " عرفوا الله ولم يمجدوه ولم يشكروه كإله بل استبدلوا مجد الله الذي لا يدركه الفساد بشبه صورة إنسان ذي فساد ، الذين أبدلوا حق الله بالباطل واتقوا المخلوق وعبدوه دون الخالق الذي هو مبارك مدى الدهور "." المصدر السابق "
لكنا يا بولس الآن نشهد انقلاب على تأصيلك فهاهم أتباعك الكفرة الملعونين يتسابقون لما انكرت حتى أن أوباما المشؤوم ببيتهم الملعون يبارك نكاح الرجل للرجل ويعقد لهم قرانا في بيتهم الحاكم ، وفي بريطانيا وفرنسا كلهم يباركون ما ذميت وحاولت الصاقه بمن كفر بكفرك وادعائك الألوهية بإنسان لكن بان أخيرا من يستحق كلامك وبجدارة ، فهل ترى ينفعهم تعليق صليبك ولو فعلوا ما فعلوا ، خصوصا وقد نفيت استحقاقهم للعذر : ( حتى إنهم لا معذرة لهم ) . فأين الفداء أيها الكافر الملعون ؟!
﴿ العصا بيد المهدي ﴾
لا يعرف المجد في بني اسرائيل من غير وجود تابوت العهد وبه العصا ولوحي العهد ونسخة التوراة ، وحين سلب التابوت الفلسطينيون من اليهود صرخت زوجة أبن أحد الأنبياء القضاة من بينهم : ( قَدْ زَالَ الْمَجْدُ مِنْ إِسْرَائِيلَ لأَنَّ تَابُوتَ اللهِ قَدْ أُخِذَ ) . " صموئيل الأول "
ولما كانت العصا وتابوت العهد ولوحي العهد مما اتخذ الرب شهادة من قبل على بني إسرائيل * صلح بتدبيره تبارك وتعالى أن يرجع بها مع التابوت لتمام الشهادة على اليهود خاصة وعلى الخلق كافة وليكون المجد ثانية في هذه الأمة ، خصوصا وأن سنة الله عز وجل أنه ما كان في بني إسرائيل شيء وإلا وسيكون نظيره في هذه الأمة ، والدليل عليه قوله عز وجل : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ، وقد عُلم أن استخلاف من سبق كان بتعيين الخليفة اختيارا منه عز وجل ولم يترك ذلك لا لنبي ولا لغيره ، مع أن بني إسرائيل كان مبدأ طلبهم بأن يكون عليهم ملكا كما الشعوب من حولهم من نبيهم صموئيل عليه الصلاة والسلام ، لكن الله عز وجل هو من عين ذلك الملك عليهم وجعل علامة صدق ذلك الاختيار منه أن التابوت وما فيه تأتي به الملائكة محمولا إليهم لا يمسه بشر ، وسيكون في هذه الأمة مثل ذلك لقوله تبارك وتعالى : ﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ، ﴿ وَقَالَ لَهُــــــــمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ... إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ . ويجب أن يعي من سيقف على كلامي هنا أن التابوت هو عند الله عز وجل وهو ليس مما يمكن لأي أحد من البشر الاستحواذ عليه وإلا حلت بمن يضع عليه يده مصائب وكـــــــوارث كما جرى للفلسطينيين في وقته ولا يمسه بشر غير مستوجب له ذلك شرعا إلا وهـــلك ولو كان ابن نبي كما حصل لولدي هارون صلى الله عليه وسلم ، وانقطاع ذكره من بني إسرائيل أظهر برهان على ما أقرر هنا ، ولأنه من الله عز وجل شهادة على البشر لا يمكن لأي كان أن يتملكه لا يهود ولا غير يهود ، وسيكون اتيان الله به لمن سيختاره ابلغ احراج لهم واقامة شهادة عليهم لا يسعهم انكار ذلك ، لدلالة اثر العصا بيد من سيختاره الله عز وجل كما كان حصل مع موسى وهو مطلبهم الأسمى أصلا ، وحين يجاب طلبهم ستنتهي كل دعوى كاذبة زائفة على أمر الله عز وجل هذا : ﴿ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ، قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ . انهم ينتظرونه أن يؤتى مثل ما أوتي موسى تماما ولن يتزحزحوا من مقامهم ما لم يشاهدوا عصا موسى صلوات ربي وسلامه عليه ، وعصا موسى بالطريق عين الله عز وجل مكان تسليمها وتحديدا من أمام باب مقبرة الشهداء بالمدينة المنورة ، تم تعيين الحامل والمحمول ، وماذا قال في الزبور عن ذلك ؟ ، قال : ﴿ إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا ، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ﴾ .
وقبل لا أسرد كلام كل الأنبياء في تلك العصا أحب أبين كيف عودهم المولى عز وجل على شهادة العصا فقد ورد ذكر عصا الشهادة تلك فيهم ونسبها لهارون وقد جاء في اخبارهم بمصر أن عصا الرب عز وجل كذلك كان حملها هارون ، ولا أدري العصا التالي ذكرها هي ذاتها أم عصا خاصة بهارون لذلك المقام ، وسنعرف بذكرها اتخاذ تلك العصا شهادة عليهم وان لم تكن هي عصا الله التي ضرب بها الفرعون ، فعصا الله عز وجل تلك احق بالشهادة عليهم على ما تقرر هنا وقد ثبت لديهم حمل عصا الرب بيد هارون عليه الصلاة والسلام أمام الفرعون وسأنقل النص لاحقا ، أما في ذكر العصا الأخرى فقال : ﴿ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى : رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلَى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الْحِفْظِ ، عَلاَمَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ ، فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لاَ يَمُوتُوا ﴾ .
وفي عصا الرب قال : ﴿ إِذَا كَلَّمَكُمَا فِرْعَوْنُ قَائِلاً : هَاتِيَا عَجِيبَةً ، تَقُولُ لِهَارُونَ : خُذْ عَصَاكَ وَاطْرَحْهَا أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَتَصِيرَ ثُعْبَانًا ﴾ ، هنا تضاف عصا الله عز وجل لهارون والأمر بين من هذا النص فهي التي سعت كالحية فتلقفت ما يفترون من السحر .
وبإرجاعها ليد المهدي قال في الزبور : ﴿ أَنْتَ مَعِي عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي ﴾ تعزية وشهادة أيضا ستكون تلك العصا بيد المهدي ، والملائكة حضور : ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً ، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً ، وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾ ، فإذا لزم لأمره أن يحضروا التابوت لزم حضورهم وإنزالهم كما حضروا في زمان تعيين أول ملك على بني إسرائيل يحملون التابوت أمام أعين البشر . وهجران القوم للقرآن محقق اليوم بلا شك ، فهذه أحكام نبوءاته العظيمة تترك بل يطعن بها وتكذب ، وأي هجران أبلغ من هذا وأبينه ؟!
﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ ، وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ، كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾ .
وماذا يقول النبي ميخا عليه الصلاة والسلام عن تلك العصا ؟!
يقول : ﴿ اِرْعَ بِعَصَاكَ شَعْبَكَ غَنَمَ مِيرَاثِكَ ، سَاكِنَةً وَحْدَهَا فِي وَعْرٍ فِي وَسَطِ الْكَرْمَلِ ، لِتَرْعَ فِي بَاشَانَ وَجِلْعَادَ كَأَيَّامِ الْقِدَمِ ﴾ . وهنا زيادة على التأكيد على ارجاع تلك العصا آخر الزمان من هذا النبي ففي نبوءته تلك فضيحة على تحريف كتبتهم الذين أفسدوا تأريخ الأنبياء كله ، فالنبي يقرر هنا بنبوءته عودة العصا يرعاهم الله عز وجل من خلالها ولقبهم بغنم الميراث اشارة لتحقيق الوعد الذي وعده المولى عز وجل بأن يورثهم الأرض ، وهو يعين كذلك مكان الرعي أين يكون ، فهل ترون باشان وجلعاد في صحراء سيناء كما يدعون أن بتلك المتاهة ضاع بني إسرائيل مع أنبيائهم ؟!
إن الكذبة الكفرة كذبوا على الخلق بتزييفهم ذاك وافتروا كثيرا على تأريخ بني إسرائيل الحقيقي وسأبين لكم في هذا الموضع وأؤكد لكم على ما ذكرت من قبل أن حتى جغرافيا الأرض التي خلقها الله عز وجل تكذبهم ، وباشان تلك ما هي إلا المدينة المنورة وأنهم حين عبروا البحر الأحمر كان عبورهم لأرض الجزيرة العربية والتي يسمونها " البرية " فكانوا يضربون الشعوب التي تأبى مصالحتهم أو تحاربهم وتتعرض لهم ، فيسلبون أماكنهم وأملاكهم ويقضون على ملوكهم كما حصل مع ملك باشان تلك ، واثباتي هذا متضمن كذب دعواهم المتاهة بسيناء التي عينوها قريبا من مصر على حدود فلسطين ، فكيف تكون باشان المدينة المنورة وبها جبل الله عز وجل المقدس ، وهم بذات الوقت دخلوا لأرض سيناء بزعمهم ؟!
فتلك الأسماء للمناطق إما أنها أسماء حقيقية بزمانهم أو استبدلت بتلك الأسماء الحقيقية التي نطقت بها تلك النبوءة وتدل على الأمكنة التي سيستوطنها عباد الله آخر الزمان فيتم لهم بذلك التبديل تمويهها خداعا للناس حتى ما تعرف ، وحتى يتم لليهود ابعاد تأريخهم عن الجزيرة العربية فلا يكون لهم أي ارتباط بها ولا ببيت الله فيها لما يترتب على ذلك من تبعات تاريخية لا يريدون توريط تأريخهم بها .
وكيف تكون باشان في أرض سيناء كما زعموا على حدود مصر وبنفس الوقت فيها جبل الله الذي سيحل عليه تبارك وتعالى ويسكن فيه كما نصت على ذلك النبوءات الكثيرة ويتوافد إليه كل من تكتب له النجاة والخلاص آخر الزمان ، والذي سينشق وينبع منه نهر عظيم مصبه لجهة البحر الشرقي والمصب الآخر للبحر الغربي ؟!
ومن المعلوم جغرافيا أن من مشرق المدينة المنورة بحر الخليج ومن جهة مغربها البحر الأحمر ، أما تلك الناحية التي زعموا فلا بحر شرقها ولا بحر غربها وما أقصر حبل الكذب .
وحتى في هجوم جيش ماجوج على المدينة المباركة تمعنوا بذات الجغرافيا كيف تنطق بتكذيب هؤلاء المحرفة الملاعين الكفرة لتعين بصدق مكان مدينة السلام أورشليم وجبلها المقدس أحد ، فيقول النبي يوئيل عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَالشِّمَالِيُّ أُبْعِدُهُ عَنْكُمْ ، وَأَطْرُدُهُ إِلَى أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَمُقْفِرَةٍ ، مُقَدَّمَتُهُ إِلَى الْبَحْرِ الشَّرْقِيِّ ، وَسَاقَتُهُ إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ فَيَصْعَدُ نَتَنُهُ وَتَطْلُعُ زُهْمَتُهُ ، لأَنَّهُ قَدْ تَصَلَّفَ فِي عَمَلِهِ .
لاَ تَخَافِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ ، ابْتَهِجِي وَافْرَحِي لأَنَّ الرَّبَّ يُعَظِّمُ عَمَلَهُ ، لاَ تَخَافِي يَا بَهَائِمَ الصَّحْرَاءِ ، فَإِنَّ مَرَاعِيَ الْبَرِّيَّةِ تَنْبُتُ، لأَنَّ الأَشْجَارَ تَحْمِلُ ثَمَرَهَا ، التِّينَةُ وَالْكَرْمَةُ تُعْطِيَانِ قُوَّتَهُمَا ، ابْتَهِجُوا وَافْرَحُوا بِالرَّبِّ إِلهِكُمْ ، لأَنَّهُ يُعْطِيكُمُ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ عَلَى حَقِّهِ ، وَيُنْزِلُ عَلَيْكُمْ مَطَرًا مُبَكِّرًا وَمُتَأَخِّرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، فَتُمْلأُ الْبَيَادِرُ حِنْطَةً ، وَتَفِيضُ حِيَاضُ الْمَعَاصِرِ خَمْرًا وَزَيْتًا ، وَأُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ ، الْغَوْغَاءُ وَالطَّيَّارُ وَالْقَمَصُ ، فَتَأْكُلُونَ أَكْلاً وَتَشْبَعُونَ وَتُسَبِّحُونَ اسْمَ الرَّبِّ إِلهِكُمُ الَّذِي صَنَعَ مَعَكُمْ عَجَبًا ، وَلاَ يَخْزَى شَعْبِي إِلَى الأَبَدِ ، وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي وَسْطِكمَ ، وَأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ وَلَيْسَ غَيْرِي . وَلاَ يَخْزَى شَعْبِي إِلَى الأَبَدِ ، وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَنْجُو. لأَنَّهُ فِي جَبَلِ الرب تَكُونُ نَجَاةٌ ﴾ .
فهذه النبوءة تكشف أيضا عن مكنونات قلوبهم وعقولهم وأن بنيتهم ضرب المدينة المنورة ومكة مستقر الخلاص ومجمع عباد الله تعالى ليمكنهم الله عز وجل في الأرض ، فهؤلاء الكفرة الملاعين من زمن وهم يعدون العدة ويفبركون المؤامرات لتنفيذ تلك المخططات المعادية لتحقيق وعد الله عز وجل وهم يوقنون مكان التأويل لكنهم لا يستطيعون كشف نواياهم والرب عز وجل بعد لم يكشف عن مقاصده بكل جلاء ، وهم ينتظرون ذلك على أحر من الجمر ، وينسقون مع الفرس المجوس اليوم لتنفيذ تلك المخططات ، وما أسهل ذلك عليهم بأن يوقتوا اللحظة ثم يتخبون بسراديبهم ليقذفوا الأرض بغازاتهم السامة وهم يطمعون السلامة فيهلك عدوهم ويبقون هم ، لكن هيهات فاقرأوا ما قاله النبي حزقيال عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَأَجْعَلُكَ قُوتاً لِكُلِّ أَصْنَافِ الطُّيُورِ الْجَارِحَةِ وَلِوُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ ، فَتُصْرَعُ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ ، لأَنِّي قَضَيْتُ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ ، وَأَصُبُّ نَاراً عَلَى مَاجُوجَ وَعَلَى حُلَفَائِهِ السَّاكِنِينَ بِأَمَانٍ فِي الأَرْضِ السَّاحِلِيَّةِ ، فَيُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ﴾ .
وقال اشعيا النبي صلى الله عليه وسلم:﴿ اكْشِفِي نِقَابَكِ ، وَشَمِّرِي عَنِ الذَّيْلِ ، وَاكْشِفِي عَنِ السَّاقِ ، وَاعْبُرِي الأَنْهَارَ ، فَيَظَلَّ عُرْيُكِ مَكْشُوفاً وَعَارُكِ ظَاهِراً ، فَإِنِّي أَنْتَقِمُ وَلاَ أَعْفُو عَنْ أَحَدٍ . إِنَّ فَادِينَا ، الرَّبَّ الْقَدِيرَ اسْمَهُ . اجْلِسِي صَامِتَةً وَأَوْغِلِي فِي الظَّلاَمِ ، لأَنَّكِ لَنْ تُدْعَيْ بَعْدُ سَيِّدَةَ الْمَمَالِكِ ﴾ .
يريد أنهار كوش فأرضهم عبر تلك المياه وهو الشمالي الذي سيطــوح به المولـــــــى عز وجل بعيدا عن عباده بل يعقبه لمكانه فيدمر قومه هناك ويفرقهم مع رياح السماء الأربع ، وبقيتهم سيعطون الطاعة ويدفعون الهدايا للمدينة ، ورؤوسهم تكبل بالأغلال ويساقون للمذلة بين يدي الله عز وجل بالمدينة المنورة .
ويقول عليه الصلاة والسلام : ﴿ لاَ يُحَالِفُ التَّوْفِيقُ أَيَّ سِلاَحٍ صُنِعَ لِمُهَاجَمَتِكِ ، وَكُلُّ لِسَانٍ يَتَّهِمُكِ أَمَامَ الْقَضَاءِ تُفْحِمِينَهُ ، لأَنَّ هَذَا هُوَ مِيرَاثُ عَبِيدِ الرَّبِّ ، وَبِرُّهُمُ الَّذِي أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ ﴾ . فقوله ( أي سلاح ) منكر يريد به ( سلاحهم النووي ) وقد توعد منهم أكثر من رأس بضرب المدينة ومكة بالنووي . وبعد احداث سبتمبر 2001 أوّل ما اقترحه السيناتور اليهـــــــــــودي الأمريكي توم تانكريدو هو ضرب الكعبــــــــة بالنووي ، ثــــــم جـــــدد تهديداته لاحقا : بقصف الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة والمدينة بالسلاح النووي . ([6])
وما قاله المدعو جاك ويلر رجل سياسي واعلامي بارز بينهم : فعندئذ لا مفر أمام الأمريكيين من المطالبة بدكّ مكة بأسلحة نووية وعند ذلك لن يشعروا بالأسف أكثر من شعورهم بالأسف على ضرب هيروشيما بالسلاح النووي اهـ . ([7])
وثبت على معهد امريكي في كلية الاركان في نورفولك بفيرجينيا تدريس الضباط الامريكيين على ضرب مكة المكرمة والمدينة المنورة بقنبلة نووية وذلك بهدف محو المدينتَيْن ، وقد اشتهر خبرها بعد ما عارض واستنكر أحد الطلبة بذلك المعهد ولما اشتهر الخبر اضطرت قيادات الجيش تدمدم الموضوع حتى لا تكون فضيحة .
وتحت هذا العنوان ( الجيش الأمريكي يدرس الضباط : تكتيكات ' هيروشيما لحرب شاملة ضد الاسلام ) . ([8])
وهذه ادخنتهم ، فهل ترونها من غير نار ؟! ، إن النبوءات تفضحهم .
قال اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَيَقُولُونَ : لِيُسْرِعْ وَلْيُعَجِّلْ بِعِقَابِهِ حَتَّى نَرَاهُ ([9]) ،
لِيُنَفِّذْ القدوس مَأْرَبَهُ فِينَا فَنُدْرِكَ حَقِيقَةَ مَا يَفْعَلُهُ بِنَا . وَيْلٌ لِمَنْ يَدْعُونَ الشَّرَّ خَيْراً ، وَالْخَيْرَ شَرّاً ، الْجَاعِلِينَ الظُّلْمَةَ نُوراً وَالنُّورَ ظُلْمَةً وَالْمَرَارَةَ حَلاَوَةً وَالْحَلاَوَةَ مَرَارَةً وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ ، وَالأَذْكِيَاءِ فِي نَظَرِ ذَوَاتِهِمْ ، وَيْلٌ لِلْعُتَاةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمُتَفَوِّقِينَ فِي مَزْجِ الْمُسْكِرِ، الَّذِينَ يُبَرِّئُونَ الْمُذْنِبَ بِفَضْلِ الرِّشْــــــــــــــــوَةِ ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى
الْبَرِيءِ حَقَّهُ ، لِهَذَا كَمَا تَلْتَهِمُ النَّارُ الْقَشَّ ، وَكَمَا يَفْنَى الْحَشِيشُ الْجَافُّ فِي اللَّهَبِ ، كَذَلِكَ يُصِيبُ أُصُولَهُمُ الْعَفَنُ ، وَيَتَنَاثَرُ زَهْرُهُمْ كَالتُّرَابِ ، لأَنَّهُمْ نَبَذُوا شَرِيعَةَ اللهِ وَاسْتَهَانُوا بِكَلِمَةِ القُدُّوسِ لِذَلِكَ احْتَدَمَ غَضَبُ الرَّبِّ فَمَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِمْ وَضَرَبَهُمْ ، فَارْتَعَشَتِ الْجِبَالُ ، وَأَصْبَحَتْ جُثَثُ مَوْتَاهُمْ كَالْقَاذُورَاتِ فِي الشَّوَارِعِ وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَرْتَدَّ غَضَبُهُ وَلَمْ تَبْرَحْ يَدُهُ مَمْدُودَةً بِالْعِقَابِ ﴾ .
ويقول : ﴿ تَذَكَّرُوا الأُمُورَ الْغَابِرَةَ الْقَدِيمَةَ لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ ، وَقَدْ أَنْبَأْتُ بِالنِّهَايَةِ مُنْذُ الْبَدْءِ ، وَأَخْبَرْتُ مِنَ الْقِدَمِ بِأُمُورٍ لَمْ تَكُنْ قَدْ حَدَثَتْ بَعْدُ ، قَائِلاً : مَقَاصِدِي لاَبُدَّ أَنْ تَتِمَّ ، وَمَشِيئَتِي لاَبُدَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ ، أَدْعُو مِنَ الْمَشْرِقِ الطَّائِرَ الْجَارِحَ وَمِنَ الأَرْضِ الْبَعِيدَةِ رَجُلَ مَشُورَتِي ، قَدْ نَطَقْتُ بِقَضَائِي وَلاَبُدَّ أَنْ أُجْرِيَهُ ، وَمَا رَسَمْتُهُ مِنْ خِطَّةٍ لاَبُدَّ أَنْ أُنَفِّذَهُ ﴾ .
ويقول حزقيال فيهم:﴿ أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي تَحَدَّثْتُ عَنْهُ فِي الأَيَّامِ الْغَابِرَةِ عَلَى أَلْسِنَةِ عَبِيدِي أَنْبِيَاءِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ تَنَبَّأُوا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ بِأَنِّي سَآتِي بِكَ عَلَيْهِمْ﴾.
ويقول : ﴿ هَا أَنَا أَنْقَلِبُ عَلَيْكَ يَاجُوجُ فَأُحَوِّلُ طَرِيقَكَ وَأَقُودُكَ وَأُحْضِرُكَ مِنْ أَقَاصِي الشِّمَالِ وَآتِي بِكَ وَأُحَطِّمُ قَوْسَكَ فِي يَدِكَ الْيُسْرَى ، وَأُسْقِطُ سِهَامَكَ مِنْ يَدِكَ الْيُمْنَى ، وَأُعَرِّفُ اسْمِي الْقُدُّوسَ بَيْنَ شَعْبِي ، هَا إِنَّ الأَمْرَ قَدْ وَقَعَ وَتَمَّ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ . هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَخْبَرْتُ بِهِ ﴾ .
ويقول عنهم : ﴿ وَأَسْتَأْصِلُ الْكَرِيتِيِّينَ ، وَأُبِيدُ بَقِيَّةَ سُكَّانِ سَاحِلِ الْبَحْرِ ، وَأُنَفِّذُ فِيهِمِ انْتِقَامِي الْعَظِيمَ بِتَأْدِيبٍ مُفْعَمٍ بِالسَّخَطِ ، فَيُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ ، إِذْ أَصُبُّ نِقْمَتِي عَلَيْهِمْ . أَلاَ تَرْتَعِدُ مُدُنُ السَّوَاحِلِ لِجَلَبَةِ سُقُوطِكِ ، وَلِصُرَاخِ الْجَرْحَى ، وَلِوُقُوعِ الْقَتْلِ فِيكِ ، فَيَنْزِلُ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْمُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ عَنْ عُرُوشِهِمْ وَيَخْلَعُونَ جُبَبَهُمْ وَيَطْرَحُونَ عَنْهُمْ أَرْدِيَتَهُمُ الْمُزَرْكَشَةَ ، وَيَكْتَسُونَ الرُّعْبَ ثَوْباً ، وَيَجْلِسُونَ عَلَى الأَرْضِ مُرْتَجِفِينَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، مَذْعُورِينَ لِمَا أَصَابَكِ ﴾ .
ويقول : ﴿ قَدْ أَزِفَتِ الأَيَّامُ وَحَانَ تَحْقِيقُ كَلاَمِ كُلِّ رُؤْيَا ، إِذْ لَنْ تَكُونَ بَعْدُ رُؤْيَا بَاطِلَةٌ .. لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ أَتَكَلَّمُ وَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَقْضِي بِهَا تَتِمُّ ، مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ ، بَلْ هَا أَنَا أَنْطِقُ بِقَضَائِي فِي أَيَّامِكُمْ أَيُّهَا الشَّعْبُ الْمُتَمَرِّدُ وَأُنَفِّذُهُ فِي حِينِهِ .. لَنْ يَتَأَخَّرَ بَعْدُ تَنْفِيذُ كَلِمَةٍ مِنْ كَلاَمِي الَّذِي قَضَيْتُ بِهِ ، فَكُلُّ كَلِمَةٍ نَطَقْتُ بِهَا لاَبُدَّ أَنْ تَتِمَّ ﴾ .
وانظروا للكذبة اليهود الملاعين لما ادعوا استرجاع سيناء لأنها مستحقة لهم ثم سلموها لجيش مصر المنسق الأول معهم بتلك الأكاذيب ، ثم هو لم يرعاهم هناك الرب عز وجل لا بعصا موسى ولا من غير عصا موسى ، فكيف يفرطوا فيها وبها جبل الله كما يدعون والمفديين سيحشرون إليه والرب سيتخذ منه مسكنا له ليتمم الله عز وجل لهم حوله الخلاص الذي وعد به ، فانظروا للكذب ما أقصر حبله ، لو ما الحمقى كثر والسفهاء الأخباث المتمردون كأذناب الكلاب معوجة .
وأزيد هنا في الكشف عن حقائق جغرافية تكذب اليهود وكتبتهم الذين عبثوا بالنبوءات وأرادوا طمسها عن الخلق ، كيف أن بتعيين الجبل المقدس أحد ومكانه من المدينة المقدسة أتت الموافقة تامة على لسان أحد الأنبياء وهو حزقيال عليه الصلاة والسلام ، وأين ذلك ؟!
وقع ذلك بما يسمونه رؤيا المجد أي مشاهدات النبي بمنامه لمجد الله عز وجل ، قاله " يشوع " أبرز كتاب العهد القديم : ( ورأى حزقيال رؤيا المجد التي أراه إياها بمركبة الكروبين ، أنذر الاعداء بالمطر ووعد المستقيمين في طرقهم بالإحسان ) .
فماذا رأي النبي بمنامه ذاك ؟!
لنقرأ : ﴿ فَارْتَفَعَ مَجْدُ الرَّبِّ عَنِ الْكَرُوبِ إِلَى عَتَبَةِ الْبَيْتِ فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنَ السَّحَابَةِ وَامْتَلأَتِ الدَّارُ مِنْ لَمَعَانِ مَجْدِ الرَّبِّ ... وَخَرَجَ مَجْدُ الرَّبِّ مِنْ عَلَى عَتَبَةِ الْبَيْتِ وَوَقَفَ عَلَى الْكَرُوبِيمِ فَرَفَعَتِ الْكَرُوبِيمُ أَجْنِحَتَهَا وَصَعِدَتْ عَنِ الأَرْضِ قُدَّامَ عَيْنَيَّ . عِنْدَ خُرُوجِهَا كَانَتِ الْبَكَرَاتُ مَعَهَا ، وَوَقَفَتْ عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الشَّرْقِيِّ ، وَمَجْدُ الإِلهِ عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ ﴾ .
ثم قال : ﴿ وَصَعِدَ مَجْدُ الرَّبِّ مِنْ عَلَى وَسْطِ الْمَدِينَةِ وَوَقَفَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي عَلَى شَرْقِيِّ الْمَدِينَةِ ﴾ . وهنا الشاهد في تعيين مكان الجبل المقدس من المدينة ، وجبل أحد حقا يبدأ من ناحية المشرق من المدينة المنورة . وهذا تعريفهم لمكانه اليوم جغرافيا بالنسبة للمدينة : ( يمتد أحد كسلسلة جبلية من الشرق إلى الغرب ، مع ميل نحو الشمال ، في الجهة الشمالية من المدينة ) اهـ .
فانظروا كيف تكذبهم جغرافيا الجبل المقدس ومدينته على وفق رؤيا المجد لدى النبي حزقيا عليه الصلاة والسلام والتي تبشر بأن الله عز وجل سيحل فوق ذلك الجبل آخر الزمان لما يأتي لنصرة دينه شاهدا على الكافة ، وكما نرى جغرافيا التوافق التام ما بين مكان جبل أحد من مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم المباركة ، وما ورد بتلك النبوءة .
كذلك في نبوءة زكريا عليه الصلاة والسلام قال في ذلك : ﴿ فَيَخْرُجُ الرَّبُّ وَيُحَارِبُ تِلْكَ الأُمَمَ كَمَا فِي يَوْمِ حَرْبِهِ ، يَوْمَ الْقِتَالِ وَتَقِفُ قَدَمَاهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الجَبَلِ .. الَّذِي قُدَّامَ أُورُشَلِيمَ مِنَ الشَّرْقِ ، فَيَنْشَقُّ الجَبَلُ مِنْ وَسَطِهِ نَحْوَ الشَّرْقِ وَنَحْوَ الْغَرْبِ وَادِيًا عَظِيمًا جِدًّا ، وَيَنْتَقِلُ نِصْفُ الْجَبَلِ نَحْوَ الشِّمَالِ ، وَنِصْفُهُ نَحْوَ الْجَنُوبِ ..
وَيَأْتِي الرَّبُّ إِلهِي وَجَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ ، وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ مِيَاهًا حَيَّةً تَخْرُجُ نِصْفُهَا إِلَى الْبَحْرِ الشَّرْقِيِّ ، وَنِصْفُهَا إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ فِي الصَّيْفِ وَفِي الْخَرِيفِ تَكُونُ وَيَكُونُ الرَّبُّ مَلِكًا عَلَى كُلِّ الأَرْضِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ الرَّبُّ وَحْدَهُ وَاسْمُهُ وَحْدَهُ ﴾ .
وكل هذا التواطؤ في تعيين المدينة المقدسة وجبلها المقدس وجغرافيته انما وافق المدينة وجبلها فيما كان الجهل والكذب مطبق على ما يزعمون ، فلا خغرافيا ولا واقع حقيقي لما يفترون ، إنها صناعة للوهم ليغروا الناس ويبعدوهم عما يريد الله عز وجل وقدر أن يكون في آخر الأيام ، وكل عبثهم بما قاله الأنبياء سيزيله الله تبارك وتعالى بمجرد أن يكون تحقق النبوءات حقيقة واقعية لا مجرد أخبار .
إذا هو الجبل المقدس والواقف عليه المهدي خليفة الله تعالى ورسوله بعد أن يحل فوقه الرب عز وجل ويقول النبي اشعيا في ذلك : ﴿ مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ الْقَائِلِ : قَدْ مَلَكَ الرب . رُقَبَاؤُكِ قَدْ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ مَعاً وَشَدَوْا بِفَرَحٍ لأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عِيَاناً رُجُوعَ الرَّبِّ﴾.
وقال في الزبور : ﴿ يَقُومُ اللهُ يَتَبَدَّدُ أَعْدَاؤُهُ وَيَهْرُبُ مُبْغِضُوهُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِهِ كَمَا يُذْرَى الدُّخَانُ تُذْرِيهِمْ كَمَا يَذُوبُ الشَّمَعُ قُدَّامَ النَّارِ يَبِيدُ الأَشْرَارُ قُدَّامَ اللهِ وَالصِّدِّيقُونَ يَفْرَحُونَ يَبْتَهِجُونَ أَمَامَ اللهِ وَيَطْفِرُونَ فَرَحًا ... اَللهُ فِي مَسْكِنِ قُدْسِه اَللهُ مُسْكِنُ الْمُتَوَحِّدِينَ فِي بَيْتٍ ، مُخْرِجُ الأَسْرَى إِلَى فَلاَحٍ ، إِنَّمَا الْمُتَمَرِّدُونَ يَسْكُنُونَ الرَّمْضَاءَ . اَلَّلهُمَّ عِنْدَ خُرُوجِكَ أَمَامَ شَعْبِكَ عِنْدَ صُعُودِكَ فِي الْقَفْرِ الأَرْضُ ارْتَعَدَتِ السَّمَاوَاتُ أَيْضًا قَطَرَتْ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ سِينَا نَفْسُهُ مِنْ وَجْهِ اللهِ ، مَطَرًا غَزِيرًا نَضَحْتَ يَا اَللهُ مِيرَاثُكَ وَهُوَ مُعْيٍ أَنْتَ أَصْلَحْتَهُ قَطِيعُكَ سَكَنَ فِيهِ هَيَّأْتَ بِجُودِكَ لِلْمَسَاكِينِ يَا اَللهُ ، الرَّبُّ يُعْطِي كَلِمَةً ، الْمُبَشِّرَاتُ بِهَا جُنْدٌ كَثِيرٌ . جَبَلُ اللهِ جَبَلُ بَاشَانَ جَبَلُ أَسْنِمَةٍ جَبَلُ بَاشَانَ ، لِمَاذَا أَيَّتُهَا الْجِبَالُ الْمُسَنَّمَةُ تَرْصُدْنَ الْجَبَلَ الَّذِي اشْتَهَاهُ اللهُ لِسَكَنِهِ ، بَلِ الرَّبُّ يَسْكُنُ فِيهِ إِلَى الأَبَدِ . اَللهُ لَنَا إِلهُ خَلاَصٍ ، وَعِنْدَ الرَّبِّ السَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ ([10]) .
قَالَ الرَّبُّ : مِنْ بَاشَانَ أُرْجعُ ([11]) ، أُرْجعُ مِنْ أَعْمَاقِ الْبَحْرِ .. مِنْ هَيْكَلِكَ فَوْقَ دار السلام لَكَ تُقَدِّمُ مُلُوكٌ هَدَايَا... يَأْتِي شُرَفَاءُ مِنْ مِصْرَ، كُوشُ تُسْرِعُ بِيَدَيْهَا إِلَى اللهِ . لِلرَّاكِبِ عَلَى سَمَاءِ السَّمَاوَاتِ الْقَدِيمَةِ . هُوَذَا يُعْطِي صَوْتَهُ صَوْتَ قُوَّةٍ . أَعْطُوا عِزًّا للهِ . عَلَيهم جَلاَلُهُ ، وَقُوَّتُهُ فِي الْغَمَامِ ، مَخُوفٌ أَنْتَ يَا اَللهُ مِنْ مَقَادِسِكَ ، هُوَ الْمُعْطِي قُوَّةً وَشِدَّةً لِلشَّعْبِ ﴾ . كلها رمزت برجعة الأشهاد وحلول الله عز وجل فوق الجبل المقدس بالمدينة دار السلام ، وتجليات الخلاص كلها مثبتة في هذا الإصحاح من زبور النبي داود عليه الصلاة والسلام .
ويقول في الزبور عن تلك العصا بيد المهدي : ﴿ وباسمي قرنهُ يرتفع ، فأجعل على البحر يده وعلى الأنهار يمينه ﴾ .
واشعيا : ﴿ وَعَصَاهُ عَلَى الْبَحْرِ ، وَيَرْفَعُهَا عَلَى أُسْلُوبِ مِصْرَ ﴾ ، ﴿ أَيْنَ الَّذِي أَصْعَدَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ مَعَ رَاعِي غَنَمِهِ أَيْنَ الَّذِي جَعَلَ فِي وَسَطِهِمْ رُوحَ قُدْسِهِ الَّذِي سَيَّرَ لِيَمِينِ مُوسَى ذِرَاعَ مَجْدِهِ ، الَّذِي شَقَّ الْمِيَاهَ قُدَّامَهُمْ لِيَصْنَعَ لِنَفْسِهِ اسْمًا أَبَدِيًّا ، الَّذِي سَيَّرَهُمْ فِي اللُّجَجِ ، كَفَرَسٍ فِي الْبَرِّيَّةِ فَلَمْ يَعْثُرُوا كَبَهَائِمَ تَنْزِلُ إِلَى وَطَاءٍ ، رُوحُ الرَّبِّ أَرَاحَهُمْ هكَذَا قُدْتَ شَعْبَكَ لِتَصْنَعَ لِنَفْسِكَ اسْمَ مَجْدٍ ﴾ .
وحزقيال قال فيها : ﴿ وَأُمِرُّكُمْ تَحْتَ الْعَصَا ، وَأُدْخِلُكُمْ فِي رِبَاطِ الْعَهْدِ ﴾ .
وحتى سليمان عليه الصلاة والسلام بما نسب له ضرب مثلا حكيم في ذكرها فقال : ﴿ اَلسَّوْطُ لِلْفَرَسِ وَاللِّجَامُ لِلْحِمَارِ ، وَالْعَصَا لِظَهْرِ الْجُهَّالِ ﴾ .
وأيوب كذلك عليه الصلاة والسلام : ﴿ بُيُوتُهُمْ آمِنَةٌ مِنَ الْخَوْفِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ عَصَا اللهِ ﴾ .
لقد اتحد ذكر المهدي بالنبوءات مع تلك العصا حتى صار يعرف بها بالكثير منها كقول النبي ميخا عليه الصلاة والسلام : ﴿ اِسْمَعُوا لِلْقَضِيبِ وَمَنْ رَسَمَه ﴾ .
ومثله في نبوءة الزبور المؤكدة بالإنجيل قوله : ﴿ قال الله لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعدائك موطئاً لقدميك ، يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك ﴾ .
وفي الزبور أيضا : ﴿ كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ . قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ ﴾ .
وحتى في مناماتهم كانوا يرون فيه الرؤى كالنبي يعقوب وبلعام وارميا صلوات ربي وسلامه عليه ، قال ارميا بمنام له : ﴿ ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَيَّ قَائِلاً : مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ يَا إِرْمِيَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا رَاءٍ قَضِيبَ لَوْزٍ . فَقَالَ الرَّبُّ لِي : أحْسَنْتَ الرُّؤْيَةَ ، لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجْرِيَهَا ﴾ .
أما في رؤيا نبي الله تعالى حبقوق عليه الصلاة والسلام فهناك الإشارة التي افادت بأن الله عز وجل سيسلط بيديه على رؤوس الأعداء قوة البرق مثل ما سيسلط عليهم قوة عصا الرب ، فيقول النبي : ﴿ ارْتَجَّتِ الأَرْضُ وَارْتَعَشَتْ أُسُسُ السَّمَاوَاتِ ارْتَعَدَتْ وَارْتَجَّتْ ، لأَنَّهُ غَضِبَ طَأْطَأَ السَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ ، جَعَلَ الظُّلْمَةَ حَوْلَهُ مِظَلاَّتٍ ، مِيَاهًا حَاشِكَةً وَظَلاَمَ الْغَمَامِ ، أَرْعَدَ الرَّبُّ مِنَ السَّمَاوَاتِ ، وَالْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَهُ ، أَرْسَلَ سِهَامًا فَشَتَّتَهُمْ بَرْقًا فَأَزْعَجَهُمْ , أَخْرَجَنِي إِلَى الرُّحْبِ خَلَّصَنِي لأَنَّهُ سُرَّ بِي ، عَيْنَاكَ عَلَى الْمُتَرَفِّعِينَ فَتَضَعُهُمْ , هُوَ الإِلهُ الَّذِي يُعَزِّزُنِي بِالْقُوَّةِ ، وَيُصَيِّرُ طَرِيقِي كَامِلاً الَّذِي يَجْعَلُ رِجْلَيَّ كَالإِيَّلِ ، وَعَلَى مُرْتَفَعَاتِي يُقِيمُنِي الَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ الْقِتَالَ ، فَتُحْنَى بِذِرَاعَيَّ قَوْسٌ مِنْ نُحَاسٍ * , يَحْفَظُنِي رَأْسًا لِلأُمَمِ , شَعْبٌ لَمْ أَعْرِفْهُ يَتَعَبَّدُ لِي بَنُو الْغُرَبَاءِ يَتَذَلَّلُونَ لِي مِنْ سَمَاعِ الأُذُنِ يَسْمَعُونَ لِي بَنُو الْغُرَبَاءِ يَبْلَوْنَ وَيَزْحَفُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ الإِلهُ الْمُنْتَقِمُ لِي ، وَالْمُخْضِعُ شُعُوبًا تَحْتِي وَالَّذِي يُخْرِجُنِي مِنْ بَيْنِ أَعْدَائِي ، وَيَرْفَعُنِي فَوْقَ الْقَائِمِينَ عَلَيَّ ﴾ . يشير لوقوفه على جبل أحد ليرفع ويعرف مجده .
ويقول اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ مَنْ أَنْهَضَ مِنَ الْمَشْرِقِ الَّذِي يُلاَقِيهِ النَّصْرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ؟ دَفَعَ أَمَامَهُ أُمَمًا وَعَلَى مُلُوكٍ سَلَّطَهُ ، جَعَلَهُمْ كَالتُّرَابِ بِسَيْفِهِ ، وَكَالْقَشِّ الْمُنْذَرِي بِقَوْسِهِ ﴾ .
وقوس النحاس بمرائي الأنبياء المراد منه البرق وهو صريح في مثل قول حزقيال عليه الصلاة والسلام : ﴿ كَمَنْظَرِ الْقَوْسِ الَّتِي فِي السَّحَابِ يَوْمَ مَطَرٍ، هكَذَا مَنْظَرُ اللَّمَعَانِ مِنْ حَوْلِهِ هذَا مَنْظَرُ شِبْهِ مَجْدِ الرَّبِّ وَلَمَّا رَأَيْتُهُ خَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي ﴾ .
مع قول النبي هوشع عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَلاَ أُخَلِّصُهُمْ بِقَوْسٍ وَبِسَيْفٍ وَبِحَرْبٍ وَبِخَيْل وَبِفُرْسَانٍ وَأَقْطَعُ لَهُمْ عَهْدًا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّيَّةِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ وَدَبَّابَاتِ الأَرْضِ ، وَأَكْسِرُ الْقَوْسَ وَالسَّيْفَ وَالْحَرْبَ مِنَ الأَرْضِ ﴾ ، مع أنه يثبت له القوس سلاحا بنبوءة حجي واشعيا ، دليل على أنه المراد بذلك قوس سماوي لا أرضي .
ويقول عاموس النبي عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَمَاسِكُ الْقَوْسِ لاَ يَثْبُتُ ، وَسَرِيعُ الرِّجْلَيْنِ لاَ يَنْجُو، وَرَاكِبُ الْخَيْلِ لاَ يُنَجِّي نَفْسَهُ ﴾ .
تبطل اقواس البشر ولا يكون إلا قوس الرب بيد المهدي ، يقول حبقوق النبي عليه الصلاة والسلام : ﴿ عُرِّيَتْ قَوْسُكَ تَعْرِيَةً ﴾ ، ﴿ الَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ الْقِتَالَ ، فَتُحْنَى بِذِرَاعَيَّ قَوْسٌ مِنْ نُحَاسٍ ﴾ .
﴿ عَظِيمٌ مَجْدُهُ بِخَلاَصِكَ جَلاَلاً وَبَهَاءً تَضَعُ عَلَيْهِ . لأَنَّكَ جَعَلْتَهُ بَرَكَاتٍ إِلَى الأَبَدِ. تُفَرِّحُهُ ابْتِهَاجًا أَمَامَكَ تُصِيبُ يَدُكَ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ. يَمِينُكَ تُصِيبُ كُلَّ مُبْغِضِيكَ تَجْعَلُهُمْ مِثْلَ تَنُّورِ نَار فِي زَمَانِ حُضُورِكَ الرَّبُّ بِسَخَطِهِ يَبْتَلِعُهُمْ وَتَأْكُلُهُمُ النَّارُ تُبِيدُ ثَمَرَهُمْ مِنَ الأَرْضِ وَذُرِّيَّتَهُمْ مِنْ بَيْنِ بَنِي آدَمَ لأَنَّهُمْ نَصَبُوا عَلَيْكَ شَرًّا تَفَكَّرُوا بِمَكِيدَةٍ لَمْ يَسْتَطِيعُوهَا لأَنَّكَ تَجْعَلُهُمْ يَتَوَلَّوْنَ تُفَوِّقُ السِّهَامَ عَلَى أَوْتَارِكَ تِلْقَاءَ وُجُوهِهِمْ ﴾ . " الزبور"
ويقول أيوب عليه الصلاة والسلام : ﴿ يَفِرُّ مِنْ سِلاَحِ حَدِيدٍ تَخْرِقُهُ قَوْسُ نُحَاسٍ ﴾ .
وعند زكريا عليه الصلاة والسلام : ﴿ عَلَى الرُّعَاةِ اشْتَعَلَ غَضَبِي فَعَاقَبْتُ الأَعْتِدَةَ ، لأَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ تَعَهَّدَ قَطِيعَهُ ، وَجَعَلَهُمْ كَفَرَسِ جَلاَلِهِ فِي الْقِتَالِ . مِنْهُ الزَّاوِيَةُ مِنْهُ الْوَتَدُ مِنْهُ قَوْسُ الْقِتَالِ وَيَكُونُونَ كَالْجَبَابِرَةِ الدَّائِسِينَ طِينَ الأَسْوَاقِ فِي الْقِتَالِ ، وَيُحَارِبُونَ لأَنَّ الرَّبَّ مَعَهُمْ ، وَالرَّاكِبُونَ الْخَيْلَ يَخْزَوْنَ . وَأُقَوِّيهم وَأُخَلِّصُهم وَأُرَجِّعُهُمْ ، لأَنِّي قَدْ رَحِمْتُهُمْ أَنَا الرَّبُّ إِلهُهُمْ فَأُجِيبُهُمْ . أَصْفِرُ لَهُمْ وَأَجْمَعُهُمْ لأَنِّي قَدْ فَدَيْتُهُمْ ، وَيَكْثُرُونَ وَأَزْرَعُهُمْ بَيْنَ الشُّعُوبِ فَيَذْكُرُونَنِي فِي الأَرَاضِي الْبَعِيدَةِ ، وَيَحْيَوْنَ مَعَ بَنِيهِمْ وَيَرْجِعُونَ وَأُقَوِّيهِمْ فَيَسْلُكُونَ بِاسْمِي ، يَقُولُ الرَّبُّ ﴾ .
وقال عز وجل : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ . لقد كتب ذلك وعدا عليه حقا أن يرجعهم وينصرهم ، وهم النزاع من القبائل .
وأختم الكتاب بتقرير التالي : لما كان حلول الرب عز وجل في المدينة فوق جبل أحد حق وجاءت كل تلك النبوءات بالنص عليه ، لزم عليه حق اسقاط أقمارهم الصناعية وتطهير وجه السماء منها كلها ، وإلا للزم منه مع حلول الرب أنه تبارك وتعالى ليس العلي الأعلى ، وهذا باطل لا يمكن يكون ، لا يمكن يكون هناك مصنوعات بشرية تعلو الرب عز وجل اثناء حلوله بالمدينة ، فهل يمكن تصوير حلوله فوق المدينة على قمة جبل أحد واستتاره بالغمام كما فعل في زمان بني إسرائيل ، من أقمار الصين أو الهند أو أوروبا أو أمريكا ؟!
ولما كان هذا باطلا لا يمكن يكون لزم عليه ما تقرر في هذا الكتاب أنه عز وجل وعد بتطهير وجه السماء من كل أباطيلهم تلك وسيرجعون من غير أي رسائل من السماء إلا رسائل الله تبارك وتعالى ، قال في الزبور : ﴿ حَدِّثُوا بَيْنَ الأُمَمِ بِمَجْدِهِ ، بَيْنَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ بِعَجَائِبِهِ لأَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ وَحَمِيدٌ جِدًّا ، مَهُوبٌ هُوَ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ لأَنَّ كُلَّ آلِهَةِ الشُّعُوبِ أَصْنَامٌ ، أَمَّا الرَّبُّ فَقَدْ صَنَعَ السَّمَاوَاتِ. مَجْدٌ وَجَلاَلٌ قُدَّامَهُ. الْعِزُّ وَالْجَمَالُ فِي مَقْدِسِهِ ... اسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ ارْتَعِدِي قُدَّامَهُ يَا كُلَّ الأَرْضِ لأَنَّهُ جَاءَ ، جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ ، يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ وَالشُّعُوبَ بِأَمَانَتِهِ ﴾.
يشير الزبور في هذه النبوءة إلى أن التحدث بمجد الله من خلال أوليائه نقل مباشر من أفواههم للناس عن مشاهداتهم ورؤيتهم وليس من خلال النقل المباشر عبر تلك الوسائل التي تم طيها وازيلت عن وجه السماء .
﴿ بِمَجْدِ مُلْكِكَ يَنْطِقُونَ ، وَبِجَبَرُوتِكَ يَتَكَلَّمُونَ ، لِيُعَرِّفُوا بَنِي آدَمَ قُدْرَتَكَ وَمَجْدَ جَلاَلِ مُلْكِكَ ... يَحْفَظُ الرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ ، وَيُهْلِكُ جَمِيعَ الأَشْرَارِ ﴾ ، ﴿ بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي ، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي ﴾.
وقال النبي اشعيا عليه الصلاة والسلام : ﴿ وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الرَّبَّ يُطَالِبُ جُنْدَ الْعَلاَءِ فِي الْعَلاَءِ ، وَمُلُوكَ الأَرْضِ عَلَى الأَرْضِ وَيُجْمَعُونَ جَمْعًا كَأَسَارَى فِي سِجْنٍ ، وَيُغْلَقُ عَلَيْهِمْ فِي حَبْسٍ ﴾ . يريد بالجند أقمارهم الصناعية.
وينص النبي على ما يفيد كما في الزبور ان نقل الأخبار عن طرق أفواه المؤمنين : ﴿ حَدَثَ لِجَمْعِ كُلِّ الأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ فَيَأْتُونَ وَيَرَوْنَ مَجْدِي وَأَجْعَلُ فِيهِمْ آيَةً ، وَأُرْسِلُ مِنْهُمْ نَاجِينَ إِلَى الأُمَمِ إِلَى الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لَمْ تَسْمَعْ خَبَرِي وَلاَ رَأَتْ مَجْدِي فَيُخْبِرُونَ بِمَجْدِي بَيْنَ الأُمَمِ .. وَيَخْرُجُونَ وَيَرَوْنَ جُثَثَ النَّاسِ الَّذِينَ عَصَوْا عَلَيَّ لأَنَّ دُودَهُمْ لاَ يَمُوتُ وَنَارَهُمْ لاَ تُطْفَأُ وَيَكُونُونَ رَذَالَةً لِكُلِّ ذِي جَسَدٍ ﴾ .
* تراجع المواضيع التالية : هل سيكلم الله تعالى المهدي مثل ما كلم موسى عليهما الصلاة والسلام ؟
: من هنا تقف على كل ما يستجد ويهم ذكره في عودة الأنبياء للإشهاد ..
* يراجع هذا الفصل من كتابي في التفسير تحت عنوان : ( اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ) .
* ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ . فهو مقام علي شريف وعدوا فيه بأن يكونوا من الشهداء أمرهم بانتظاره ليقيموا تلك الشهادة العظيمة كما قال على لسان نبيه صفنيا عليه الصلاة والسلام : انتظروني لأني عزمت في اليوم الذي أقوم فيه كشاهد أن أجمع الأمم وأحشد الممالك لأسكب عليهم سخطي واحتدام غضبي .
([1]) قال المسيح عليه الصلاة والسلام : ﴿ فلما مالت الظهيرة إذا بالله قد ظهر لهما ونادى آدم قائلا : ( آدم أين أنت ) ؟ ـ بالنسخة المطبوعة هذا الإستفهام وهذا خطأ الأولى طرحها ـ . فأجاب : ( يا رب تخبأت من حضرتك لأني وامرأتي عريانان فلذلك نستحي أن نتقدم أمامك ) .==
== فقال الله : ( ومن اغتصب منكما براءتكما إلا أن تكونا أكلتما الثمر فصرتما بسببه نجسين ، ولا يمكنكما أن تمكثا بعد في الجنة ) .
أجاب آدم : ( يا رب إن الزوجة التي أعطيتني طلبت مني أن آكل فأكلت منه ) .
حينئذ قال الله للمرأة : ( لماذا أعطيت طعاما كهذا لزوجك ) .
أجابت حواء : ( إن الشيطان خدعني فأكلت ) .
قال الله : ( كيف دخل ذلك الرجيم إلى هنا ) .
أجابت حواء : ( إن الحية التي تقف على الباب الشمالي من الجنة أحضرته إلى جانبي ) .
فقال الله لآدم : ( لتكن الأرض ملعونة بعملك لأنك أصغيت لصوت امرأتك وأكلت الثمر ، لتنبت لك حسكا وشوكا ، ولتأكل الخبز بعرق وجهك ، واذكر أنك تراب وإلى التراب تعود ) .
وكلم حواء قائلا : ( وأنت التي أصغيت للشيطان ، وأعطيت زوجك الطعام تلبثين تحت تسلط الرجل الذي يعاملك كأمة ، وتحملين الأولاد بالألم . ولما دعا الحية دعا الملاك ميخائيل الذي يحمل سيف الله وقال : ( اطرد أولا من الجنة هذه الحية الخبيثة ، ومتى صارت خارجا فاقطع قوائمها ، فإذا أرادت أن تمشي يجب أن تزحف ) .
ثم نادى الله بعد ذلك الشيطان فأتى ضاحكـا فقال له :
( لأنك أيها الرجيم خدعت هذين وصيرتهما نجسين أريد أن تدخل في فمك كل نجاسة فيهما وفي كل أولادهما متى تابوا عنها وعبدوني حقا فخرجت منهم فتصير مكتظا بالنجاسة ) .
فجأر الشيطان حينئذ جأرا مخوفا وقال : ( لما كنت تريد أن تصيرني أردء ممـا أنا عليه فإني سأجعل نفسي كما أقدر أن أكون ) .
حينئذ قال الله : ( انصرف أيها اللعين من حضرتي ) ، فانصرف الشيطان .
ثم قال الله لآدم وحواء اللذين كانا ينتحبان : ( أخرجا من الجنة ، وجاهدا أبدانكما ولا يضعف رجاؤكما ، لأني أرسل ابنكما على كيفية يمكن بها لذريتكما أن ترفع سلطة الشيطان عن الجنس البشري ، لأني سأعطي رسولي الذي سيأتي كل شيء ، فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس ﴾ .
وروى الطبراني عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله ، أرأيت آدم ، أنبيٌّ كان ؟ قال : " نعم ، كان نبياً رسولا ، كلمه اللهُ قُبُلا ، قال له : ﴿ يا آدم اسكُن انت وزوجكَ الجنةَ ﴾ . ( من موضوع : من أعجب وأعظم موافقات المصطفى لما ورد بإنجيل المسيح . نشر بموقع المهدي )
([2])انتبهوا هنا جيدا لإثباته معاينة الله عز وجل بالدنيا مثل ما يعاين بالجنة ، مع قوله في موضع آخر من الإنجيل التالي : ﴿إذا كان إلهنا لم يرد أن يظهر نفسه لموسى عبده ولا لإيليا الذي أحبه كثيرا ولا لنبي ما ، أتظنون أن الله يظهر نفسه لهذا الجيل الفاقد الإيمان .. ، فكيف أذا يكون الله شبيها بالإنسان ؟! ، ويل للذين يدعون الشيطان يخدعهم ﴾ . قال هذا ردا على الجهالة التي قالها تلميذه بطرس لما ثارت الفتنة أول ما ثارت بدعوى أنه ابن إله ، فسأل ماذا يقول الناس عني ؟ فأجابوا عم يقوله الناس وكان جواب بطرس لما سأل : وما قولكم أنتم في ؟ : أنك المسيح بن الله فغضب وطرده وقال : اذهب وانصرف عني لأنك أنت الشيطان وتحاول أن تسيء إلي .
ثم قال ما نقلت قبل في نفي امكانية معاينة الإله الحق ، وهذا كما أنه يكشف ضلال عباد الصليب لإثباتهم نقيض ما قاله ويعتقده المسيح عليه الصلاة والسلام في حكم معاينة الإله التي لا يمكن للبشر تحصيلها لأنه إله محتجب ودعواهم أنه إله باطلة من حيث هذا الأصل ، لكن قد يفهم التناقض في كلامه عليه الصلاة والسلام ولا بد من تجلية وجه المسألة هنا ونفي التناقض عن كلامه صلوات ربي وسلامه عليه ، ذلك على وفق هذا الأصل من أصول الدعوة المهدية الذي اقرر الكلام فيه هنا واحققه : لأنه عليه الصلاة والسلام بنفي تحقق مشاهدة الإله انما يعني ما قاله النبي اشعيا صلى الله عليه وسلم نفي معاينة ذاته كما هي من غير حجاب فهذا ما يعنيه بذلك النفي وكل ما اثبته من امكانية معاينة الإله الحق سواء في الدنيا أو الجنة فهو يريد اثبات معاينته من حيث المثال وهو من الحجب التي لا يمكن للبشر معاينته إلا من خلالها وبغير ذلك كل من يزعم إماكانية معاينة ذات الله عز وجل فهو كاذب وعلى وفقه كان احتجاج المسيح هنا بالنفي ، إلا اثباته المعاينة كما في النص بالمتن محل تعليقي هذا ، أو اثباته معاينة آدم عليه الصلاة والسلام لله عز وجل ومراده من خلال مثاله ، وهذا أصل متين من أصول دعوتنا المباركة اليوم ولله الحمد والفضل والمنة .
(*) تم انجازه وطبع تحت عنوان : ( المقدمة الذهبية لتقويم اعتقاد أهل الحديث وبيان أنهم ليسوا على السبل المهدية ) .
([3]) تم انجازه وطبع تحت عنوان : ( المقدمة الذهبية لتقويم اعتقاد أهل الحديث وبيان أنهم ليسوا على السبل المهدية ) .
* في نسخة البروتستانت النص هكذا : ستحيا موتاك وتقوم أشلائي . مضاف لهم شخصيا والله أعلم فإن صح هذا فهو 00ممن سيرجع للشهادة معهم .
* نشر موقعنا المبارك عدة ملفات ومواضيع تتعلق بهذا والأمر وكلها تدل على مدى انغماس هؤلاء الكفرة الملاعين بتلك الشرور التي حكاها رسولهم الإبليسي بولس عن خصومه في وقته وها هي تنقلب على أتباعه وتصبح سمات بارزة فيهم جزاء وفاقا .
وها هي جملة منها ومن عناوينها تعرف :
ــ ايرلندا تشهد اول ارتباط لسحاقيات بالمملكة المتحدة
ــ عالم المخنثين عالمهم ! (ادخل وانظر بعينيك )
ــ التون جون تزوج صديقه
ــ كاليفورنيا ولاية الشيطان !
ــ اللهم رحماك لا ترجمنا معهم ، قسيس يفعل به على رأس كنيسة !!
ــ أوباما يستضيف حفل زواج لمثلى الجنس فى البيت الأبيض ــ امرأة في الكونجرس الأمريكي راعية للشواذ جنسيا ــ نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن يقول أن إجماع الأمة على زواج المثليين أمر لا مفر منه .
* ﴿ خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ ، لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ﴾ ، ﴿ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى : رُدَّ عَصَا هَارُونَ إِلَى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الْحِفْظِ ، عَلاَمَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ ، فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لاَ يَمُوتُوا ﴾ ، وفي عصا الرب قال : ﴿ إذَا كَلَّمَكُمَا فِرْعَوْنُ قَائِلاً : هَاتِيَا عَجِيبَةً ، تَقُولُ لِهَارُونَ : خُذْ عَصَاكَ وَاطْرَحْهَا أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَتَصِيرَ ثُعْبَانًا ﴾ .
([9])شاهده من القرآن قوله عز وجل : ﴿ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ، وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ .
([10]) ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدخِلْنِي مُدخَلَ صِدقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ ، تمعنوا جيدا كيف بهذه الآية القرآنية قدم المدخل وآخر المخرج ليطابق المعنى الذي رمز له بالزبور ويريد رجعته للإشهاد مع اخوته الأنبياء يرجع من الموت ، وداود في الزبور بتلك المخارج انما يعني نفسه أيضا وكل من كان من الأشهاد فيعيدهم الله عز وجل لتلك الغاية ، ولهذا سماه كما قلت قبل بمخرج الصدق ليوافيهم على تلك الشهادات بمقعد الصدق وقدم الصدق ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ﴾ . والسلطان النصير له بحفيده المهدي بما يمكن له المولى عز وجل ويكون ذا سلطان في وسط أعدائه ولتلك نبوءة مستقلة في الزبور سبق واشرت لها بأكثر من مكان.
([11]) بحال كان الضمير للرب المقصود به هنا محمدا صلى الله عليه وسلم ففي تلك انباء عظيمة ولا يستبعد ذلك أنه هو المقصود بالرب وسأبين وجه ذلك . وأما إن كان يعني بالرب إلهه الله عز وجل فأيضا يقال : ( يُرجِع من الله من باشان ؟) فلم يدفن بالمدينة من الأشهاد إلا النبي صلى الله عليه وسلم فيتعين أنه هو المقصود بالإرجاع وأن ذلك مخرج الصدق أي المخرج من الموت بحسب الزبور . وسأقول لكم لم الحق أن المقصود بالرب هنا النبي صلى الله عليه وسلم وأن تلك النبوءة بالزبور ما هي إلا اخبار على لسان النبي داود عليه الصلاة والسلام أن النبي محمد عليه الصلاة والسلام سيرجع من المدينة ، أي سيخرج من قبره ليقف على رجليه حيا ليتم الله عز وجل به الإشهاد مثل إخوانه الأنبياء المختارين . أولا : النبي إذا قال للنبي في عرف بني اسرائيل أو الرجل للرجل هو ربي ، فيعني هو حاكمي وهذا من داود لم يقله بحق المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا لأنه سيكون حاكما عليه ، ولن يكن هذا إلا برجعتهما ثانية للإشهاد .
ثانيا : قد قال هذا صريحا في النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر من الزبور ونصه بحسب انجيل المسيح الصحيح عليه الصلاة والسلام : ﴿ قال الله لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعدائك موطئاً لقدميك . يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك ﴾ . فهنا المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم ، والمرسل حفيده المهدي وسلطانه دعوة النبي : ﴿ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ .
* كاتب عهدهم القديم يقع بالاضطراب في هذا النص فتارة ينسبه للنبي حبقوق وتارة لداود عليه الصلاة والسلام كما ورد ذلك في سفر صموئيل الثاني حرفيا فقال : ﴿ الَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ الْقِتَالَ ، فَتُحْنَى بِذِرَاعَيَّ قَوْسٌ مِنْ نُحَاسٍ ﴾ . وذلك اقتضى مني التنبيه على ذلك .