الفصل الثالث
أطيط العرش
أطيط العرش المثبت في الأخبار لدى بعض المحدثين لم يرد في المتفق ولم يعول عليه بتاتا أصحاب الصحيحين ، مع أن آخرين يرون الإيمان به عقيدة ، وأكثر أئمة السنة لا يجيزون انكاره بحال ، بل منكر ذلك عند مثل أحمد بن حنبل جهمي !
فهل اتفقوا جميعا أئمة السنة على هذا المعتقد ؟ ، أم اختلفوا فمنهم من أثبت ذلك ومنهم من لم يثبت ذلك ؟
في هذا الفصل سأجيب عن كل ذلك ، لكن الأهم عندي بيان مذهب إمام من أئمة أهل الحديث المقدمين رحمة الله تعالى عليهم والتأكيد عليه في هذا الخصوص ، وهو البخاري فلم يثبت هذا في كتابه مثل ما أنه لم يثبت في باب العرش تعلق الرحم ، ولا تعلق القناديل بالعرش التي تأوي إليها أرواح شهداء المؤمنين مثل ما روى ذلك غيره وأثبته ، فإن بعض الروايات عند بعض المحدثين أتت على ذكر أنها معلقة بالعرش وأثبتوها لديهم ، إلا أن البخاري رحمه الله لم يعول على ذلك ويلتفت له ولم يسقه في باب من أبواب الإعتقاد في جامعه للصحيح .
كما لم يوافقهم مالك رحمه الله تعالى باعتقاد اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ : فقد سئل عن حديث اهتزاز العرش ، فنهى عن القول به ، وقال : ما يدعو المرء أن يتكلم بهذا وما يدري ما فيه من الغرور . ( ذكره في الفتح نقلا عن العتبية 7/502 )
ومال ابن حجر شارح البخاري إلى أن سبب إعراض مالك عن هذا الحديث عدم ثبوت صحته عنده ، وليس بصحيح هذا القول ، إذ ثبت عن مالك إنكار نظير هذا في الإعتقاد مثل حديث " الصورة " أنكره مثل ما أنكر حديث سعد لا لعدم ثبوت سنده بل لطعنه بمن رواه عنده وكان رده للمعنى لا لمجرد السند إذ ثبت أن غير من طعن به قد روى هذا الحديث وهم من الثقات .
قال عبدالرحمن بن القاسم : سألت مالك عمن يحدث بالحديث الذي قالوا : " إن الله خلق آدم على صورته " . فأنكر ذلك مالك إنكارا شديدا ، ونهى أن يتحدث به أحدٌ . فقيل له : إن ناسا من أهل العلم يتحدثون به ؟ فقال : من هم ؟ فقيل : محمد بن عجلان ، عن أبي الزناد . فقال : لم يكن يعرف ابنُ عجلان هذه الأشياء ، ولم يكن عالما ، ولم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتى مات ، وكان صاحب عمال يتبعهم اهـ . وخبر الصورة مروي في الصحيحين !
وحاول بعضهم يطعن في ثبوت هذا عن مالك بالطعن براوي معين ، لكنه توبع عن عبدالرحمن بن القاسم بزيادة حديثين كذلك أحدهما :
" إن الله يكشف عن ساقه " ، و حديث : " إنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد " . ذكره ابن عدي ونقله عنه صاحب سير أعلام النبلاء وعلق على هذا بالقول :
أنكره لأنه لم يثبت عنده ولا اتصل به ، فهو معذور ، كما أن صاحبي ( الصحيحين ) معذوران في إخراج ذلك أعني : الحديث الاول والثاني ، بثبوت سندهما ، واما الحديث الثالث ، فلا أعرفه بهذا اللفظ ، فقولنا في ذلك وبابه :
الإقرار ، والإمرار ، وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم اهـ .
قلت : من أثبت مثل هذا لم يكن يقول بالتفويض على قول الذهبي المتمذهب بالعقيدة في أسماء الله وصفاته على ابن فورك والأشعري وهو امرءٌ كسائر التائهين في هذه الأبواب ، يخلط ولا يميز فرق ما بين مذهب ابن فورك والأشعري ومذهب مثل أحمد ووكيع واسحاق بن راهويه ، ولذا لا يعجب حين يجد قارئ الذهبي في سيره أو ميزانه ثناء على مثل ابن فورك وابن الباقلاني والأشعري ، أو أن ينسب مذاهب التفويض لصفات الباري سبحانه لمذاهب السلف ، وهو يعلم أن ابن فورك ومثل ابن حنبل في اعتقاد الصفات ضدان لا يجتمعان ، فكيف صير الذهبي كل هؤلاء سلفا ؟!
ويكثر من طلب السكوت ، يريده سكوتا على اختلاف غير موجود ، وجمعا على ائتلاف زائف ، بين من اختلفوا ولم يجتمعوا قط بالاعتقاد في صفات الباري عز وجل.
ونراه ينقل قول ابن الباقلاني : قد بينا دين الأمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير ! اهـ . ( كتاب الذب عن الأشعري راجع السير 17/558 )
ويقره ، وهذا خلاف ما ثبت في صحيح البخاري وغيره وفيه إثبات الصورة للرحمان عز وجل ، والتي لو أنكرها مالك وأولها إبن خزيمة ، إلا أن سائر الأئمة أو أكثرهم على إثباتها ممن يدعون اعتقاد السلف على هذا ، لكنه اثبات مدخول لا يعون حقيقته ولا ماهيته ، بل هو عندهم إثبات صفات للرحمان عز وجل بحقيقته الكاملة المطلقة بالكمال ، وهو من أبطل الباطل الذي تواطئ عليه سلفهم وخلفهم وخلطوا به خلطا عظيما لا فرق عندهم في ذلك بين حقيقة وجود الله تعالى الباري بصفات الكمال والعزة المحتجبة التي لا يمكن أن تدرك فهو مستتر وراء حجب العزة والكمال التي لا يمكن لأي مخلوق أن يدرك حقيقة وجوده ذاك ، وبين صفات المثال والصورة .
والذهبي لا يفتر عن التأكيد على أن مذهب السلف والأشعري سواء في هذا ، يريد تفويض الصفات والإيمان باعتقادها صفات ذات ووجود كصفة الحياة وصفات الأفعال كالرزق ، ولا يمكن بحال علم حقيقتها فهي مجردة للمعاني ، وهذا عين مذهبهم الذي ينسبونه للسلف ولم يجدوا من يكشف عن حقيقته كما ينبغي ، وقد لبس على الجميع في ذلك ولا مخلص ومعلم .
ولما وصف عبدالعزيز بن أحمد الكتاني الخطيب البغدادي بأنه على مذهب أبي الحسن الأشعري ، علق على ذلك الذهبي بالقول : صدق فقد صرح الخطيب في أخبار الصفات أنها تمر كما جاءت بلا تأويل. يريد القول بتفويض العلم بما دلت عليه.
وهذه من أكبر قواعد الكذب في علوم الشريعة وفي أشرف باب من أبوابه " صفات المولى " عز وجل ، والتي من أهم مسؤوليات هذا الكتاب نقضها من غير هوادة ولا موادة فقد طال إلتباس أمرها على المسلمين وحان طرحها من ذاكرتهم لسلامة هذا الباب الشريف من أبواب علوم شريعتنا الإسلامية التي لطالما شوهت من مثل هذا التقعيد الزائف والتلبيس المذهبي .
ومن أبرز رواة حديث أطيط العرش ومثبتيه من علماء أئمة الحديث الإمام وكيع الذي لم يسلم من سلاطة لسان الذهبي وتلاعبه الفوركي ، حيث لم يطب له " المنصف " حتى روى بين يدي ذكره لحديث أطيط العرش المستنكر من رواية وكيع ، حديثه في انتفاخ بطن النبي صلى الله عليه وسلم عند توفيه ، وكيف أن وكيع بتحديثه ذلك بمكة كاد يقتل على يد واليها بدافع من قريش ، حتى أن الخشبة نصبت للإمام وكيع لشنقه على الزندقة ، بهكذا مقدمة يهيئ الذهبي في سيره للنبلاء لذكره حديث أطيط العرش من طريق وكيع ، استهجانا لما قد يروي هذا الإمام الكبير وازدراءً بما ينكرونه ، ومن ثم أردف بذكر حديث أطيط العرش عن وكيع بما أنه يروي مثل ذاك فاصطيد وكيع ومرويته بشباك الذهبي ، حتى ينفر القلب من هذا الذكر .
تعلم ذلك من الخطيب البغدادي مع ابن اسحاق ومرويته بأطيط العرش هو الآخر ، حتى عده حمارا يقاد بحبل من رقبته خارج المسجد ، ثم يقول الذهبي بورعه الكاذب : أن لو لم أجد هذا عند ابن عساكر في تأريخه عن وكيع ما ذكرته . يتصيدون المكاره !!
وقد تأول الذهبي ما لا يتأول بحال عند مثبتة خبر أطيط العرش ، فنسب الأطيط للعرش وعده بمنزلة اهتزاز العرش على مذهب المتأوله ، فالصفة مضافة للعرش نفسه عندهم لا للرحمان عز وجل وهنا يتجلى أحد أوجه التفويض ، وبهذا يجعلون في ذلك فرقا مانعا للخالق عن المخلوق ، يثبتون الأثر وينفون المؤثر ، مع أن الخبر ينص على أن ذلك إنما نشأ من ثقل الرحمان عز وجل هكذا بالنص ! ، وصار هذا التفويض أو التأويل والتحريف هو مذهب السلف عند الذهبي ، فإن لم يفوضوا أولوا ، والسلف يعتقدون كذب هذا ويخالفونه وينكرونه ، بل بلغ الأمر ببعضهم كما مر معنا عن إبن حجر وشيخه وجوقة الشراح أن يستبدلوا حرفا بغيره موضوع ليصرفوا المعنى المستنكر في إثبات الصفة ولو بالوضع والقول على نص الخبر ما ليس فيه ، فبات الناس بين تلبيس المؤولة كالذهبي وغيره من شراح الأحاديث ، وإثبات علماء السلف كوكيع وشعبة والأعمش وسفيان وغيرهم ، حيارى لا يهتدون لسبل الهدى فيما اختلف فيه الخلق .
ذكر أبو حاتم الرازي عن أحمد قال : حدثنا وكيع بحديث في الكرسي ، قال : فاقشعر رجل عند وكيع ، فغضب ، وقال : أدركنا الأعمش والثوري يحدثون بهذه الأحاديث ، ولا ينكرونها .
ولم ينص الذهبي على لفظ الحديث الذي استنكر لفظه في مجلس وكيع بعينه ، ولا سبب لإغفال ذكره إلا كراهة التذكير بشهادة مثل وكيع لمثل هذه الرواية لا أكثر جريا على ما اعتاد عليه الأشاعرة ومن تأثر بمذاهبهم ، في تعمد اغفال علاقة كبار أئمة الحديث بمثل هذه المرويات وألفاظها ، حتى ما يبقى لها إلا ضعيف أو متكلم به ، ثم لينقدوا بعد ذلك كما يحلو لهم ، وما عجزوا عنه سندا تأولوه معناً ، إما على سبيل التفويض أو تحريف الخبر وتعطيل معناه .
والحديث ، حديث ابي اسحاق عن عبدالله بن خليفة عن عمر ولفظه مرفوعا على سبيل التفسير : ﴿ على العرش استوى ﴾ ، حتى يسمع أطيط كأطيط الرحل . ذكره على وجه الإختصار الخطيب في تأريخه من طريق شعبة عن ابي إسحاق عن عبدالله بن خليفة عن عمر رفعه .
ونقل عن الدارقطني تفرد القاضي البُوراني بهذا ، حكاه عن ابن غالب وقال ابن غالب : يقال إنه وهم ، والمحفوظ عن ابن قتيبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، وحديث شعبة موقوف .
قلت : والموقوف بحكم المرفوع هنا إن صح سنده ، فمثله لا يقول به عمر من رأي .
ورواه الدارقطني في كتاب الصفات من طريق إسرائيل عن إبي إسحاق ولفظه : أن امرأة جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ادعو الله أن يدخلني الجنة . فعظم الرب وقال : " إن كرسيه وسع السماوات والأرض ، وإن له لأطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله " .
وهو حديث مشهور رواه جماعة منهم الطبري وابن خزيمة والدارمي وابن احمد عن أبيه عن وكيع في السنة ، وابن ابي عاصم وخلق . قال البزار : وروى هذا الحديث الثوري عن أبي اسحاق عن عبدالله بن خليفة عن عمر موقوفا .
وعبدالله بن خليفة لم يسند غير هذا الحديث ، ولا أسنده عنه إلا إسرائيل ، ولا حدث عن عبدالله بن خليفة إلا أبو إسحاق . وقد روي عن جبير بن مطعم بنحو من ذلك بغير لفظه اهـ . ( البحر الزخار للبزار1/458 )
قلت : حديث جبير بن مطعم بن عدي لفظه : " إن عرشه على سماواته وأراضيه هكذا ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب " . ( العرش لإبن أبي شيبة 330 ) .
وهذا الحديث ربما كان مثار سخط مالك رحمه الله تعالى على محمد بن اسحاق رحمه الله ، فهو لم يعتق ابن عجلان في حديث الصورة وغيره لأجل انكاره مثل هذه الروايات ، فكيف بابن إسحاق مع أنه لم ينفرد بهذا هو الآخر .
روى الخطيب البغدادي عن عبدالصمد بن الفضل قال : سمعت مكي بن إبراهيم يقول : حضرت مجلس محمد بن اسحاق فإذا هو يروي أحاديث في صفة الله تعالى لم يحتملها قلبي ، فلم أعد إليه . ( الخطيب2/23)
وهذه الأحاديث كان يرويها غيره ويعتمدها كبار أئمة الحديث ويؤمنوا بما ورد فيها من ألفاظ وينكرون أشد الإنكار على من أنكرها مثل ما مر معنا عن وكيع رحمه الله تعالى .
وروى حديثه في أطيط العرش البيهقي في كتابه " الصفات " عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله نهكت الانفس وجاع العيال ، وهلكت الأموال ، استسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله تعالى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، سبحان الله " فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه رضي الله عنهم ، فقال : " ويحك أتدري ما الله ؟ إن شأنه أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع به على أحد إنه لفوق سمواته على عرشه ، وإنه عليه لهكذا ، ــــ وأشار وهب بيده مثل القبة ، وأشار أبو الأزهر بيده مثل القبة ـــ وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب " . ( 2/317 ) أخرجه أبو داود .
قال البيهقي : هذا حديث ينفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة ، وصاحبا الصحيح لم يحتجا به ، إنما استشهد مسلم بن الحجاج بمحمد بن إسحاق في أحاديث معدودة ، أظنهن خمسة قد رواهن غيره ، وذكره البخاري في الشواهد ذكرا من غير رواية ، وكان مالك بن أنس لا يرضاه ، ويحي بن سعيد القطان لا يروي عنه ، ويحيى بن معين يقول ليس هو بحجة ، وأحمد بن حنبل يقول : يكتب عنه هذه الأحاديث ـ يعني المغازي ونحوها ـ فإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا ـ يريد أقوى منه ـ فإذا كان لا يحتج به في الحلال والحرام فأولى ان لا يحتج به في صفات الله سبحانه وتعالى .
ثم نقل عن الخطابي تأويلا لهذا بعد ما أثبته : قوله إنه ليئط به معناه إنه ليعجز عن جلاله وعظمته ، حتى يئط به إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ، ولعجزه عن احتماله ، فقرر بهذا النوع من التمثيل وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعا إلى من هو دونه في القدر ، وأسفل منه في الدرجة ، وتعالى الله أن يكون مشبها بشيء أو مكيفا بصورة خلق ، أو مدركا بحس : ﴿ ليس كمثله شيئٌ وهو السميع البصير ﴾ اهـ .
أقول : بأن مشكلة المأولة والملتبسة بخبر أطيط عرش الرحمان عز وجل أكبر مما يحله الخطابي ولا البيهقي ولا أكبر منهم ولا أصغر ، فهي معضلة المعضلات مثل ما حصل ذلك مع غيرها من صفات الرحمان عز وجل ، ففي كل ذلك التباس وتقاطع لأذهان العارفين لم يقارب أحد فصله إلى ساعتنا هذه ، ولو كان الأمر في علمي على وفق ما ثبت صحته بالنقل والنظر متعلق بمحمد بن إسحاق لهان الأمر لكن كما سيرى القارئ المدرك فالأمر أكبر من ذلك وأجل ، ولا ميسر إلا ما يسره الله تعالى ولا هادي إلا هو سبحانه .
ومن ابتداء أقول في كلام هؤلاء المأولة ، أن قد قبل ما روي عن ابن إسحاق كبار علماء أهل الحديث ومن هناك ينبغي إثبات النظر في هذه المسائل الجليلة والرد على الأمر من أصله ومن اعتمد مجرد التأويل وقول من تأول من غير الرد على مذهب الكبار وتفنيده من أصله بإبطال رسمه وبيان كيف أن مبنى جل ذلك على مجرد أوهام وتخاليط لا أساس لها من الحق إلا الالتباس بما يحسبونه حقا وليس كذلك ، ولو برأيهم دلالة النقل عليه صريحة فحقيقة الأمر أنها لا تدل على ذلك ومهمتي هنا إيقاف الكل على ضعف ما كانوا عليه ، بل على بطلانه وشدة هفوته وزوغانه عن مراد الله تعالى ورسوله يعرف ذلك من رجحان قولي بأقوالهم ، إبلاجة فجر في وجه ظلام طال استقراره .
ومثل ما مر معنا سابقا التقرير بخصوص اختيار البخاري الإعراض عما يروى مضافا للعرش مثل تعلق الرحم والقناديل ، أو التصريح بنسبة اهتزازه لموت " سعد بن معاذ " رضي الله عنه ، هو كذلك يروي خبر ابن إسحاق من دون نسبة الأطيط لعرش الرحمان عز وجل ، وكل هذا مما يثبت ما بينته من أن حقيقة مذهبه رحمه الله تعالى أنه لا يقطع بما قطع به كبار أئمة الحديث رحمهم الله تعالى في نسبة بعض ذلك لعرش الله سبحانه خلاف ما ترجح لدى الكثير عليه توهما وجهلا حتى بات ذلك أمرا مسلما يحسب عليه في الصحيح رحمه الله تعالى .
فروى رحمه الله تعالى من طريق وهب بن جرير قال : ثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة ، عن جبير بن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل على عرشه ، وعرشه فوق سماواته . ( التأريخ الكبير 2/ 207 )
وهنا نرى أنه تجنب ذكر أطيط العرش في هذا الخبر وغيره أيضا على ما سيمر معنا تفصيله قريبا بحول الله تعالى وفتحه وسنرد لكل قائل قوله كشفا للغمة ورفعا لكل مدرج باطل على كلام رسول ربنا صلوات الله وسلامه عليه والذي صير مع الزمن صفة لله تعالى عوذا بالله الكريم من كل زيغ من هوى أو جهل أغوى .
وزاد البخاري بالقول : وقال لي محمد بن بشار وغيره : حدثنا وهب عن أبيه عن ابن إسحاق عن يعقوب وجبير .
وقد رجح أبو داود المسند في هذا الخبر من طريق أحمد بن سعيد الرباطي وفيه عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن جبير ، وهو مروي كذلك عنده من طريق ابن بشار وابن المثنى وغيرهم على هذا النحو ، إلا أن البخاري يحدث من الوجه الآخر عن ابن بشار وغيره عن ابن وهب عن ابيه عن ابن اسحاق عن يعقوب وجبير هكذا .
وعلق على هذا الإختلاف أبو داود رحمه الله تعالى بترجيح السند عن ابن إسحاق عن يعقوب عن جبير بحجة كتابة أحمد رحمه الله تعالى هذا الحديث بهذا الطريق من نسخة " أحمد بن سعيد الرباطي " ، مع أنه أقر بسماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة أيضا !
وهذا الإضطراب في سنده دعى الكثير للإعراض عنه وعدم اعتباره حجة في بابه ، خصوصا منهم المتأولة وتذرعوا بذلك لرد هذه الصفة ! زيادة على ما قالوا بابن إسحاق والمشهور بروايته لهذا الحديث عندهم وعدوا مدارها عليه عند أكثرهم حتى عرف به هذا الخبر ونفر عنه الكثير بسبب ذلك على ما مر معنا سابقا .
مع أن معناها مروي من وجه آخر على ما سأبينه لاحقا ، لكن المأولة ردوا كل ذلك ولم يلتفتو له وجرى معهم على ذلك الكثير ممن يدعي انتسابه لمذهب " السلف " الملتبس عليهم هذا الباب هم أيضا ، فأنكروا ذلك وأبرزهم ابن تيمية الذي اضطرب في مواضع فضعف ما كان عليه مثل وكيع والثوري وعنهم أحمد رحمهم الله جميعا ، ومثله مال متأخري أدعياء أتباع المذهب السلفي والحنبلي في الصفات لما عليه مؤولة الأشاعرة والماتوريدية وغيرهم ممن رمى من نهج منهج السلفية القديمة في الصفات بالحشوية المشبهة .
وبين أبو داود رحمه الله تعالى في سننه من هذا الطريق قول ابن بشار في روايته لهذا الحديث : " إن الله عز وجل فوق عرشه ، وعرشُـه فوق سماواته . . " . ( 5/238 )
ونقل غيره القول على : " أن عرشه على سماواته " لهكذا : وقال بإصبعه مثلَ القبة عليه: وإنه ليئطُّ به أطيط الرحل بالراكب .
ورواية أطيط العرش هذه المشهورة عن ابن وهب عن أبيه عن ابن إسحاق دخلها إدراج عن أبي الأزهر وشيخه وهب وهذا ثابت عنهما من رواية أبي الأزهر تلميذ وهب بن جرير ، حكى ذلك عنهما أبو عوانة في مسنده رحمه الله تعالى وذلك تعليقا على قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث :
" إنه لفوق سماواته على عرشه وإنه عليه لهكذا " . بين أبو عوانة عن وهب ( وأشار وهب بيده مثل القبة عليه ، وأشار أبو الأزهر أيضا ) .
وجاء بعد ذلك في رواية أبي عوانة رحمه الله تعالى : " إنه ليئط به أطيط الرَّحل بالراكب " . ( المسند 2/120 )
وعند بن أبي عاصم : إن عرشه على سماواته وأراضيه لهكذا " مثل القبة " وإنه ليأط أطيط الرحل بالراكب . ( السنة 252 )
ومن طريق آخر عن عبدالله بن خليفة عن عمر رضي الله عنه بلفظ : إن عرشه فوق سبع سماوات وإن له لأطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله . ( 252 )
وهذا والذي قبله أدرج بالحديث على أنه من متنه وليس كذلك ولذا رأيت البخاري لم يعول على ذكر ذلك بتاتا في تأريخه بل وقف مع قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله عز وجل على عرشه ، وعرشه فوق سماواته " .
ولا يستنكر مثل هذا يحصل منهم فقد حصل ذلك منهم فيما هو أكبر من هذا ، نسبة إحدى صفات الباطل للرحمان عز وجل نفسه ، وسيمر معنا تقرير ذلك أيضا لاحقا بحول الله تعالى وتوفيقه حين الكلام على " صفات المثال " له عز وجل .
بل روي خبر ابن خليفة عن عمر رضي الله عنه بلفظ :
" إن كرسيه فوق السماوات والأرض ، وإنه يقعد عليه ، فما يفضل عنه مقدار أربع أصابع ، ثم قال بأصابعه يجمعها ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب " .
هذا لفظ ابن بطة في الإبانة الكبرى ، وأما لفظه عند أبي الشيخ في كتابه " العظمة " :
" إن كرسيه وسع السماوات والأرض ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من ثقله ، ما يفضل منه أربع أصابع " .
وهذا من قبيل المدرج دخل عليهم نص خبر بآخر وسيأتي لاحقا بيان من المتسبب بذلك الخلط ما بين نصين أحدهما عن قتادة رحمه الله تعالى بخبر اسرائيل ، وسرى مثل ذلك على ما روى ابن اسحاق عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد عن أبيه ، أو ابن اسحاق عن يعقوب عن جبير .
وهنا يتعين إيضاح عدة أمور :
أولها : قد يكون ابن إسحاق استودِعْ خبر عبدالله بن خليفة من أحد رواته ممن عاصره أعني " أبو إسحاق" ، أو قد يكون حفيده إسرائيل والله أعلم بذلك ، ومن هناك تداخلت الألفاظ .
وهي عادة عرفت عن معاصري ابن إسحاق ذكرها الخطيب في تأريخه : كان يستودع الحديث . ( 2/15 )
بل قال أحمد فيه رحمه الله تعالى : كان رجلا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه . ابن اسحاق ليس بحجة ، وإذا انفرد لا أقبله رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من ذا . ( 2/30 )
يعني ممكن أن يخلط ما بين الألفاظ والأسانيد وهو عين ما حصل معنا هنا .
وعليه أقول : إما أنه مصدر هذا الخلط بعد تلقيه من شيخه يحي بن أبي بكير راوي حديث عبدالله بن خليفة ، أو أن شيخه نفسه مصدر هذا الخلط وعنه تلقى ذلك ابن اسحاق ومن ثم أدخله بكتبه وصيره بالخطأ والخلط لا أقول بتعمد الكذب ولو أن مالكا رحمه الله تعالى اتهمه بذلك ، وانتجه حديثا آخرا من جهته يرويه عنه الناس ، وعليه صار لهذا اللفظ المختلط طريقان لا واحد .
ومما يقوي حجة ما أقوله هنا أن بعض كبار أئمة الحديث لم يرو من طريقهم خبر " عبدالله خليفة " عن عمر باللفظ الذي روي عن ابن أبي بكير وابن اسحاق ، فأحمد يرويه عن عبد الرحمان بن مهدي عن سفيان عن أبي اسحاق عنه بهذا اللفظ : " إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع لَهُ أطيط كأطيط الرحل الجديد " . " رواه عبدالله بن أحمد في السنة "
وروي من طريق إمام من أئمة الحديث وهو شعبة عن أبي اسحاق مرفوعا تفسيرا لقوله تعالى : ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ ، قال : " حتى يسمع أطيط كأطيط الرحل " . " رواه الخطيب في تاريخه 2/125 "
وذكر الخطيب عن ابن غالب عن الدارقطني : أن البُوراني القاضي تفرد به . وقال ابن غالب : يقال أنه وهم ، والمحفوظ عن سَلم بن قُتيبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، وحديث شعبة موقوف .
وهذان إمامان بالحديث لم يروياه باللفظ المروي عن ابن اسحاق وشيخه وبالتأكيد أن الخلط صدر من أحدهم بدمج لفظ خبرين في خبر واحد والله المستعان .
ومما يقوي ذلك أيضا أن شيخ ابن إسحاق يحي بن أبي بكير من شيوخه الإمام شعبة رحمه الله تعالى ، وابن اسحاق نفسه من معاصري شعبة وقد أثنى عليه شعبة ، وسواء قلنا ابن اسحاق سبب الخلط أو شيخه فمن المؤكد أن أحدهما أدخل لفظ خبر بآخر مما روي عن شعبة وغيره فلم يتم لهم التمييز للتداخل في ذاكرتهم ما بين ذكر العرش المحمول واعتبار وجود عرش افترضت وجوده تلك الذاكرة الجماعية ، عرش حجب الرحمان عز وجل من فوقه ذاته العظيمة بحجب النور والنار ، بعد خلقه السماوات والأرض ، وبين عرشه المحمول يوم العرض تحفه الملائكة وجميع الخلق مجتمعون أمامه يرى من فوقه مستويا عليه وما عاد هو محجوب عن الخلق وليس باعتقادي ثمة وجود إلا لعرش واحد محمول لكن خلط تلك الذاكرة صير حقيقة وجوده في كل تلك اللبوسات والتخليطات ، ومن لم يفرق ما بين هذا وهذا ويعي حقيقة كل ذلك فلن يسعه ادراك تلك النصوص على وجه الحق والتمييز وسيقع لا محالة بالإضطراب في ادراك التوفيق ما بين كل النصوص الشرعية التي وردت في اثبات ذلك المعتقد ، سواء كانت قرآنية أو سنية .
قال تعالى : ﴿ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ . هذا هو العرشٌ المحمول الذي يستوي عليه الرحمان عز وجل يوم القيامة حين تعرض الخلائق على الله تعالى ، يؤتى به يوم العرض الأكبر تحمله الملائكة للقضاء بين المكلفين بالحق ، فيسمع من قرب منه وله أطيطا كأطيط الرحل .
وقد تناكد بعض رؤوس فرق الضلال بإنكار ذلك وتكذيب روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن بمن آمن به جهلا منهم وضلال مبين عن حقيقته ، من بعد ما لم تقو عقولهم الضعيفة على إدارك كنه هذا الخبر وحقيقته ، وقد خبطوا في ذلك كثيرا هم ومن آمن به من سلف المحدثين الكبار ما بين انكار وتكذيب أو اقرار مع تشبيه ، وكل منهم له نصيب بجهل حقيقة هذا الأمر وتأويله الحق .
ومن أنكر الخبر في صدور صوت الأطيط من هذا العرش لاستواء الرحمان عز وحل عليه كونه خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ترونه يجهل أنه أقر بأنكر من ذلك على أصول من كذب هذا وجحد امكانية حصول ذلك مع أن في نص الآية الإخبار عن أشد من ذلك في الإثبات ، فالآية نصت على تحقق الإحاطة والإدارك من المخلوقات لهذا العرش لقوله : ﴿ حافين من حول العرش ﴾ ، يريد ملائكته وهذا لا شك أشد في الإثبات ، إذ أن الله تعالى قادر على إحداث الأصوات التي يشاء ما دام ذلك في خلق من مخلوقاته وقد أجمعوا كلهم على أن العرش مخلوق لله تعالى .
أما الحف فهو إحاطة وإدارك لهذا العرش المخلوق والذي لا يمكن تقاس بالنسبة لكبره كل المخلوقات ولو جمعت ولو عظمت بحسب اثباتهم لحقيقة وجود ذاك العرش ، فما هناك نسبة بتاتا ما بين أجساد المخلوقات ولو اجتمعت مع سعة وقدر عرش الله تعالى العظيم الذي أحاط بكل شيء خلقه من كبر وسعة على أصول أهل النفي والإثبات سواء .
لكني أقول هنا بأن العرش المحمول والذي سيكون مصدرا لصوت الأطيط حسب ما ورد بالخبر يوم العرض ، هو عرش لله عز وجل محمول من قبل بعض الملائكة بإذنه تعالى بعد أن لم يكن محمولا بل كان على الماء حين خلق السماوات والأرض ولا يزال على ذلك في حال تدبير الله تعالى أمر الخلائق لحين وقوع الفصل وبعث بني آدم وجميع المخلوقات ليوم القضاء حينها يأمر الله تعالى ملائكته بحمل ذاك العرش لينصب لمحاكمة كل المخلوقات ، يؤتى به بأمر الله تعالى يوم العرض للحساب فتحف به الملائكة وتسبح بحمد ربها من حوله وتستغفر للمؤمنين ، فيأتيه الله تعالى بمثاله الحق مع الملائكة صفا صفا ليستوي عليه والكل ينظرون بكل تعظيم واستسلام لجبروته وسلطانه ، الواحد القهار .
﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ .
في هذه الآية من آيات الكتاب التي نصت على أن العرش سيكون محمولا يوم القيامة أثبت فيها الرحمان عز وجل إحاطة الملائكة بهذا العرش فقال : " من حوله " وهم يستغفرون للذين آمنوا يوم القيامة .
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ . وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً . فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ . وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ . وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ . يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾
يحمله الملائكة يومئذ بعد أن لم يكونو يحملونه لقوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ﴾. فلا زال فوق الماء غير محمول بإذن الله تعالى إلى أن يحين يوم الحساب فيأمر الملائكة يومئذ أن تحمله وتأتي به فوق الخلائق للفصل والرحمان مستويا عليه يسمع له كأطيط الرحل الجديد مثل ما ورد الخبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، نصدق بكل ذلك ونؤمن به من غير شك ولا ارتياب .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه وعرشه على الماء وبيده الأخرى الفيض أو القبض يرفع ويخفض . " رواه البخاري "
وكل من روى أو زعم من قوله ان عرش الله تعالى محمولا قبل ذلك فهو كاذب على الله تعالى ورسوله ، وأشدهم كذبا في ذلك من زعم أن حملته أوعال أو بغال أو غير ذلك من صور مخلوقات دنيا مستكرهة يجعلها صورا لملائكة الله تعالى المشرفة فهو كذاب يخلط اسرائيليات تفوه بها جهلة يهود كذبة على الله ورسله وألصقوها بدين الله ورسله فلا يخشى الله تعالى ولا يستحي منه من ينسب ذلك لدينهم .
وسيأتي بحول الله تعالى وتوفيقه في الفصل التالي تتمة الكلام حول هذا المعنى ، وتقرير تفصيلات الحق حول أمر العرش المحمول يوم القيامة وبيان بعض الأدلة من الكتاب والسنة ومن سبق من أنبياء الله تعالى الأطهار التي تعلقت بذكره .
ثانيها : وجدت الزيادة في خبر عبدالله بن خليفة والتي يغفلها بعضهم عن عمد وفيها القول بـ " ما يفضل عنه مقدار أربع أصابع " حتى نقل بالرواية عند ابن بطة من يجمع أصابعه في توصيف المعنى من الخبر وبظاهره الرفع كما مر معنا قبل ، واللفظ هذا على ما ذكرت روي عند ابن بطة بالإبانة الكبرى وأبي الشيخ في كتابه العظمة ورواه كذلك محمد بن جرير الطبري في تفسيره .
والملاحظ كذلك في لفظيهما لخبر عبدالله بن خليفة ذكر " الكرسي " بدلا من العرش وفي هذا ما فيه من إشكال قوي وهو مما يؤكد على ما قلت سابقا اختلاط الألفاظ عليه في هذا الخبر ، إذ أن بعض الروايات تنص على أن استواء الله عز وجل إنما كان وسيكون على عرشه ورد ذلك صريحا في القرآن ، وهنا في خبر ابن خليفة عن عمر يرفعه بعضهم قيل على كرسيه ، وربما لهذا الإختلاف اختار الحسن البصري رحمه الله تعالى أن : الكرسي هو العرش . " أخرجه عنه ابن جرير في تفسيره " وضعفه ابن كثير بغير بينة قاطعة رغم أن هذا الخلاف يحتاج لمزيد تحرير سيأتي لاحقا لكني أنقل الخلاف بذلك في السياق هنا ليعلم من لم يسبق له العلم بحصول الخلاف بينهم في ذلك .
قال ابن كثير : روى ابن مردوية وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء ، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية : ﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ﴾ اهـ . " التفسير 1/332 "
كما قال في تفسير قوله تعالى : ﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ﴾ . ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العظيم أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء ، والله أعلم بالصواب اهـ . " التفسير 4/437 "
أقول : أوجز لنا هذا المفسر مدى الإضطراب في هذه الأمة حول ادراك حقيقة التأويل في خبر العرش والكرسي وعلى أيهما سيستوي الرحمان عز وجل لفصل القضاء حتى يسمع له به أطيطا كأطيط الرحل الجديد ، حتى أنه لم يقطع بشيء في ذلك لا في الكرسي ولا العرش .
وقولوا كذلك عن ابن عباس رضي الله عنه إن صح عنه زعمه أن كرسي الله تعالى إنما معناه علمه ، أورد ذلك في تفسيره ابن جرير ولم يدفعه مع أنه رجح خلاف ذلك وأن للكرسي حقيقة وجودية لا معنوية واستدل لذلك بحديث عبدالله بن خليفة .
كذلك مر معنا قبل في ألفاظ روايات المحدثين أن منهم من يضيف الأطيط بروايته للعرش وآخرون للكرسي وهذا من المشكل الكبير عليهم كما رأيتم لتعلق ذلك في باب صفات الرحمان عز وجل ، وقد نص الله عز وجل في كتابه الكريم على ذكر الكرسي مفردا في آية من القرآن لا غير ، أما العرش فقد ورد ذكره في أكثر من آية وأكثر في تفصيل الأخبار عنه ، ومع هذا جاء الرواة يخلطون في اضافتهم للأطيط تارة لهذا وأخرى لذاك والحق أن بواحدا منهما سيقع ذلك الفعل الذي تعلقت به تلك الأخبار وأن الخطأ لا محالة من نصيب بعض الروايات إما لمن أضاف الأطيط للكرسي أو العرش لعدم جواز التعدد في ذلك ، وهذا ما سأبين وجه صوابه لاحقا إن شاء الله تعالى ومن الله وحده التوفيق سبحانه .
مع أني أُذكر هنا فيما قص المولى عز وجل من أخبار السابقين اضافته العرش لملك بلقيس ، كما أضاف الكرسي لملك سليمان ، وبهذا أقول أن قد يقال بالوصف لمجلس الملك بالكرسي كما يوصف كذلك بالعرش ، لكن في مسألتنا يختلف الأمر أذ قد تمت النسبة للمولى عز وجل ولسلطانه بكليهما فتعين القطع بأحدهما في خبر الأطيط دون الآخر لعدم جواز التعدد في ذلك .
ويبقى من المؤكد أن من أبطل الباطل أن ينسب الأطيط لعرشه الذي هو عرشه العظيم الحاوي لكل سماواته وأراضيه والكرسي بحسب اعتقاد تلك الذاكرة الجماعية ، والذي عُلِم بالنقل في وصف وتقدير سعته بأنه يحوي السماوات والأراضين كلها وهي فيه كحلقة في فلاة ، وكل ذلك بالنسبة لعرش الله سبحانه والذي هو أكبر من كل شيء مخلوق كحلقة في فلاة ، ومع هذا يجهل هؤلاء جهلا مبينا ويَنسِـبون له الأطيط والإهتزاز من غير وعي وإدراك لاستحالة ذلك بعدم جواز دعوى ثبوت النص به والتي هي أصل الدلالة ، وهو من الأمور الغيبية التي لا يجوز إثباتها عقيدة إلا بدليل قطعي الدلالة قطعي الثبوت ، وما نحن فيه من خلطهم قطعي الجهالة قطعي الإستحالة ممن يقول بالظن ولا يؤتمن عليه الخلط ، إلى من عصم من كل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه ، فاستحالة ثبوت ذلك ثابتة نقلا وعقلا فما كان بتلك السعة وعظيم القدر والإحاطة الشمولية لا يمكن أن يدركه أي سمع حتى يثبت له ذلك صفة من الصفات ، عكس حقيقة وجود العرش المحمول ، من حيث استطاعة المخلوقين عليه بالاحاطة وسماع كونه مصدرا للأصوات ، اما ما افترضوا من حقيقة وجود العرش حسب تصورهم فهذا من المحال والباطل دعوى ثبوته لما قدمت .
وهذا نظير أطيط السماء من تزاحم الملائكة بما ثبت من الرواية عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهي أصوات صادرة من مخلوق نتيجة أثر مخلوقات لله عز وجل ، ومع هذا هي مدركة ولو بالنسبة لمسببها الملائكة نتيجة ضغطهم السماء من تزاحمهم ، والخبر في ذلك مجرد والسماع تقديري ، أما بالنسبة للعرش فالأمر مختلف لنسبة ذلك كونها لذات الباري عز وجل وصحيح أن الخبر فيه مجرد لكن تقدير سماعه من عرش محيط بكل المخلوقات محال وهو عمل منتفيه عنه أي حكمة حتى يثبت صفة ، عكس لما يكون محمولا محاطا من مخلوقاته ، فذلك سيكون اثبات وجود واثبات عظمة وهيبة .
وكما ترون لن أطيل في رد ذلك من جهة السند فلا طائل تحت هذا فبابه واسع جدا لا يفيد الحسم والقطع ببيان وجه الخلط والتلبيس مثل ما سأقرره من جهة المعنى والمضمون والعود لأصل كل ذلك مرويات المحدثين الكبار أنفسهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من هو دونه من أصحابه مما قد لا يثبت فيه إلا الوقف لكنه مما لا يقال بالرأي .
وهذا وذاك من يحمله على عرش الله الذي هو عرشه وبتقديرهم قد احاط بكل ما خلق ، فما دونه الخلق وما فوقه الخالق يعد الأجهل ممن أراد معرفة الخالق فأتى بهذه الطامة التي جاز عليها أن تقاس بمقادير الأصابع البشرية على الحقيقة إذ جوزوا عليه اجلاس المصطفى عليه الصلاة والسلام مما يثبت أن التقدير بالأًصابع البشرية على الحقيقة لا مجرد التشبيه ﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ﴾ ، وإن كان ابن إسحاق أو غيره خلط بهذا فما ينبغي لنا إتباعهم تقليدا في صفات الله تعالى وتنزيهه .
ومن جهالة وقع الجميع بالخلط ما بين هذا العرش وذاك العرش على تقديرهم وتصورهم والذي لا يقدر قدره أحد غير الله تعالى ، ولا يمكن أن يحمل لا من ثمان ولا أكثر وليس هو على صفة خلقية قابلة للحمل توصف به ، مثل ما أن السماء لا تحمل ولا الأرض تحمل كذلك هي على صغر أحجامها مع العرش الحد الفاصل ما بين الخالق وخلقه إلا ما جاء الخبر باستثنائه .
فالأرض والسماوات والعرش ( الذي سيحمل يوم القيامة كلها ) محمولات بقوة الله تعالى وذلك آية على قدرته وعظمته وتخصيص بالفعل منه لنفسه ، أنه فعال لما يشاء .
وكان عرشه هذا على الماء وهذا الوصف الأوحد في القرآن لهذا العرش غير ذكر الإستواء عليه من الرحمن عز وجل والذي هو كذلك غير مدرك عند هؤلاء وجهلوه جهلا عظيما وكان ذلك سببا في تناحرهم حتى باتوا مللا كثيرة في الإسلام على ذلك.
فأين الملائكة الحملة لو كان حمله لازم من ملائكته ، أعني اثباتهم للعرش بحسب تصور اعتقادهم ؟
وهل بعد أن كان بالله في غنى يصبح بعد ذلك محتاجا لمن يحمله ؟! ، إنما هو الخلط وجهل المثاني لا أكثر .
هل سيكلم الله تعالى المهدي مثل ما كلم موسى عليهما الصلاة والسلام ؟