الفصل السادس
﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ، وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
هذه الآيات تعد من الآيات التي ذكرها تعالى بكتابه وهو يشير بها لعودة تابوت الشهادة في آخر هذه الأمة ، وهي الأحق بالذكر في تسلسل تلك الآيات المذكورة في هذا الكتاب " التابوت والعصا .. " بحسب أصول دعوتنا واعتقادنا فيها أنها تشير لعودة تابوت الشهادة وتلك المقدسات ، وذلك لما فيها من شبه التصريح بذلك ، واليهود لا يؤمنون بذلك بل كفروا به لجحدهم على الله عز وجل أن يؤتي غيرهم ذلك الفضل ، مثل الذي آتاهم من قبل ، وهو نزاعهم المعلوم مع الأنبياء على أن يكون لله تعالى فضل وهدى في بني إسماعيل مثل ما كان في بني إسحاق ، وقد فصل وبين ذلك للآخر خصوصا في هذا الكتاب .
وهم جحدوا ذلك ولا زالوا يصرون على أن لا إيمان لديهم في ذلك إلا أن يكون ذلك فيهم مثل ما كان من قبل فيهم ، لكن الله عز وجل هنا يفضح أمرهم برده في السياق ذاك بقوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ .
فالمماثلة هنا مختصة بذلك الشأن ولهذا ترونه تعالى يقرن ذلك من الهدى بالمحاججة ، واليهود لا يمكن يُحَجونَ إلا بذلك ، برؤيتهم لعمل العصا ومعاينة كل تلك المقدسات مرة ثانية أمامهم ، وكل ذلك التجلي الرباني المقدس بالغمام ، حتى ينقطعوا بذلك وتقوم عليهم الحجة الفاصلة في ذلك اليوم ، وذلك فقط ما لا يستطيعون بحال رده ولا تكذيبه ، مثل ما فعلوا مع مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه ، نظير كفرهم بالمسيح عليه الصلاة والسلام رغم إنزال الإنجيل عليه ، ورغم ما أجرى تعالى على يديه من آيات عظيمة كإحياء الموتى وشفاء المرضى وغير ذلك من آيات ربنا تعالى الكبرى ، ورغم كل ذلك لم يؤمنوا به ويتبعونه لمجرد أن قال بأن ذلك الفضل وتلك الرحمة مما سيكون من نصيب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وليس هم كما يعتقدون ويحبون أن يكون ذلك فيهم لا سواهم ، فأبوا لذلك كما بين من قبل وكفروا به ، وأخذوا يؤلبون على المسيح العامة لأنه قال بذلك والسلطات الرومانية ، وأخذوا حثيثا بالسعي لقتله نتيجة ذلك ، إلى أن فتنهم الله تعالى بما فتنهم فيه ، ورفع رسوله إليه وطهره منهم .
وعليه يجب ادراك تلك الحقيقة في أنهم لن ينقطعوا ويزول باطلهم وكل تلك الأكاذيب على الله تعالى وملته وملة رسله ، إلا بتلك المقدسات التابوت والعصا وما برفقتهما ، فيقطع دابر الكفرة حينها ويزول كيد الشيطان بهم .
ويفهم من كلامه تعالى وخبره هنا بتلك الآيات أن الله تعالى سيؤتي قوما في هذه الأمة مثل ما أوتوا من قبل أولئك اليهود ، لتتم تلك المحاججة ، وأن ذلك من فضله تعالى الذي بيده وحده يؤتيه من يشاء وأنه واسع عليهم ، وأنه يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم .
ولا اختصاص أكثر من الإختصاص بتلك المقدسات وتابوت الشهادة والعصا ، ويكفي وصفه بالهدى والفضل والرحمة وأن كل ذلك سيخص به قوما علمهم وقدر متى يكون أمرهم .
و ( أو ) وقعت في ذلك السياق إما للإبهام أو جاءت بمعنى " حتى " أي يؤتيهم ذلك ليحاجوكم عند ربكم ، وقوله : ﴿ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ ، هو الأصرح في كل ذلك السياق لدلالته على المقصود بشرحنا ، أعني كون تلك المحاججة وقيام كل تلك البراهين ستكون عند الله عز وجل فيكون ذلك حين يتجلى بقداسته فوق تلك المقدسات من خلال ذلك الغمام الذي سيغشاها ويكون الله تعالى حاضرا هناك حين يحقق ذلك التأويل ، كما كان حاضرا من قبل في زمان موسى عليه الصلاة والسلام ، ولما يقول تعالى : ﴿ يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾ ، فهو يعني ذلك على التمام ، والمماثلة من كل وجه ، ومن ذلك حضوره تبارك وتعالى عند حصول تلك المحاججة .
ومن أسرار تلك الآيات كذلك قوله تعالى بعد ذكر ذلك : ﴿ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾
وانظروا معي أين كذلك قال بأنه واسع عليم ؟!
قاله في ذكره لمجيء الملائكة تحمل التابوت في أول تعيين لخليفة له : ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ .
فانظروا أين وضع كذلك قوله في وصف نفسه تعالى بأنه : ( وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ؟!
قال به كذلك في قوله عز وجل : ﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ . وهو يعني هنا ذلك التابوت ، فحين يلتقون به آخر الزمان فثم وجه الله تعالى يكون هناك كما هو مشروح في الفصل الخامس من هذا الكتب .
تأكيدات على ذلك أتت مكررة كما في سورة البقرة وما سواها كقوله تعالى ملمحا بأن تلك حقيقة وعده بذلك وأنه حقا واسع سبحانه : ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ .
وهنا يضع ذلك الوصف بتلك الآية عن نفسه تبارك وتعالى للعلاقة ذاتها التي فصلت في طول وعرض هذا الكتاب ، ويريد من وصف نفسه بذلك بكل تلك السياقات من تلك الآيات ليكون ذلك رابط خفي يدل على هذا المعنى ، وعيه من وعيه وجهله من جهله : ﴿ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ .
وعليه أقول : بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتفت لهذا المعنى حين قرر لأبي ما قرره ، لأنهم بكل حال لن يدركوا ذلك من صنيعه تعالى ويكون لهم الدقة بالفهم والإحاطة حتى أنه لا يجوز لهم التصرف في ذلك ، فيختموا الآيات تلك بما ختم الله عز وجل بها وصف نفسه بما يشاء من ذلك ، فهم بلا إدراك لدقة ذلك بكل حال ، فتركهم دون ذلك لأنه لا يعنيهم ولن يفهموه بتاتا .
ولهذا لما انجر لذلك ابن مسعود وروي عنه ما روي عنه في ذلك اتهمه من اتهمه منهم بأنه يجيز تلاوة القرآن بالمعنى ، ونفاه عنه من نفاه ، لكني أقول : بأن الأهم في ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم كما في مصنف عبدالرزاق الصنعاني إن صح ذلك عنه ، والوجه في تفسير ذلك وتفنيده بما تقرر هنا ، فهم كما قلت بكل حال لن يستوعبوا دقة ذلك ولن يعلموا وجه أهميته حين يختم الله تعالى تلك الآيات وهي بذلك المعنى من الأخبار بما يختم في وصف نفسه ، وأنه يريد ترك أمارة هناك ليهتدي بها سالك الطريق .
قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال لي أبي بن كعب : اختلفت أنا ورجل من أصحابي في آية فرفعنا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اقرأ يا أبي فقرأت ، ثم قال للآخر : اقرأ فقرأ ، فقال النبي : كلاكما محسن مُجمل ، فقلت : ما كلانا محسن مجمل ؟ قال أبي : فدفع النبي في صدري ، فقال : إن القرآن أنزل علي فقيل لي : على حرف أو على حرفين ؟ قلت : بل على حرفين ، ثم قيل لي : على حرف أو ثلاثة ؟ ، فقلت : بل على ثلاثة ، حتى انتهى إلى سبعة أحرف ، كلها شاف كاف ما لم تخلط آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة ، فإذا كانت ( عزيز حكيم ) فقلت : ( سميع عليم ) فإن الله سميع عليم اهـ . (1)
وهذا أعم مما نحن فيه .
وقال ابن مسعود : إنما هو كقول أحدكم لصاحبه : اعجل وحي هلا . (2)
وفي الطبراني الكبير عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : إني قد سمعت القراء فسمعتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف ، فإنما هو كقول أحدكم : هلم وتعالى .
وعنده عن شقيق قال : قلنا عند عبدالله : ( هيت ) فقال : لا هيت إنا قد سألنا عن ذلك ، وأنا أقرأ كما علمت أحب إلي اهـ .
قلت : ونحن نقرأ كما علمنا .
وذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى تكذيبه من زعم على ابن مسعود : أنه يجيز القراءة بالمعنى . وإن كان دعوى ذلك مبناه على ما ذكره ابن مسعود هنا ، فذلك ليس بكذب وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم كما مر معنا عند عبد الرزاق في مصنفه وذلك في حدود ختم الآيات في أسماء الله تعالى وصفاته على ما بين هنا ، فهو يتسامح به إذا ما وقع من القارئ بتلك الحدود مع ترجيحه لنفسه بأن يقرأ كما تعلم ، بل قال : من قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه ، ومن قرأ على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله فلا يدعه رغبة عنه ، فإنه من يجحد بآية منه ، يجحد به كله ، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه : اعجل ، وحي هلا . (3)
وكلامه ظاهر في اجازة ذلك لكن بتلك الحدود التي بينت لا يتعدى ذلك من القارئ ، وعليه نبه على خطورة مثله ابن مسعود نفسه وعرض بالكفر والجحود على ذلك .
وأقول : ونظير ذلك ورد في قوله تعالى كذلك : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ .
وهذا لما كان منه تعالى في ذات المعنى وضع وصفه عن نفسه كما في كل تلك الآيات ، فسبحان العالم المحيط بكل شيء ، واللطيف لما يشاء ، تبارك الله رب العالمين .
----------------------------
(1) روى طرفا منه مسلم وبمعناه عن أبي هريرة عند أحمد.
(2) رواه أحمد في المسند .
(3) مسند أحمد رحمه الله تعالى .